jeudi 10 novembre 2011

ثورة النحل ضد الدبابير: يجب القطع مع النظام المالي غير المنتج


يعمل النحل في عالم الحشرات على إنتاج العسل بينما الدبابير، مثلها مثل الوحوش المفترسة، تمتصّ عسلها وتعمل على هلاكها.

وفي الاقتصاد، لم يجد البشر منذ زمن سحيق غير وسيلتين للحصول على الموارد: أن يغتصبوها كما يفعل الدبابير٬ أو يبتدعوها كما يفعل النحل. النحل في الاقتصاد، هم المنتجون للثروة والقيمة المضافة، أي المزارعون والصناعيون ومقدمو خدمات الانتاج وممولو الاستثمار المنتج. الدبابير في المقابل، هي تلك الوحوش المفترسة، وأذيعهم صيتا أولئك المتمعّشون من الإيرادات، الذين يستغلون ويضاربون على الثروات الطبيعية أو يمارسون الاحتكار على الواردات ومقاولات البناء وغيرها.

لا يزال هؤلاء المفترسون كثرة في البلدان العربية والإفريقية، أضف إليهم في البلدان الغربية مفترسين جددا أكثر ضراوة، يتقنون جيّدا سواء أساليب التلاعب بالإعلام أو تفكيك قواعد التنظيم المالي.

وفي الجنوب كما في الشمال نجد أن الدبابير المفترسة تجني مداخيلها الضخمة لا من الإنتاج والإبداع والتجديد، بل من قربها من السلطة السياسية، عن طريق الفساد، وذلك بنهلها مباشرة من خزائن الدولة كما يفعل العديد من طغاة العرب والأفارقة.

كشفت الأزمة الراهنة لمجموعة "ماردوك" عن الكثير من سلب ثروات الدولة قامت به المجموعات الخصوصية وعن الدور الحاسم الذي قام به الإعلام لصرف نظر السكان عن الاهتمام بالرهانات الحقيقية. وبالمثل، وبجشع كبير وقصر نظر، أغرق الاقتصاد المالي -الذي حوّل لفائدته قواعد اللعبة- العالم العربي في الأزمة والإفلاس والانحطاط. إلا أننا نجد أن النحل هو الذي يكسب التميّز ويتفوّق في مجموعة البلدان الصاعدة، إنه المنتصر الكبير في العولمة بفضل شهيته للصناعة، بينما الغرب منهمك ومنذ ثلاثين سنة في تكديس ثروة افتراضية قد يقدّر لها أن تتبخّر خلال ليلة ذعر واحدة (تحل) في سوق الأسهم.

لنا مثالان على ذلك: الأوّل هو أن "بنوك النحل" التي تموّل حتى الآن أنشطة إنتاج الثروات لا تمثّل سوى %1 من مجموع البنوك، مقابل %99 لـ"بنوك الدبابير"؛ وهذه الأخيرة تأسر السياسات لإبطال قواعد تنظيم القطاع المالي وتبيع لنا مشتقات عديمة الفائدة - مليارات من الإيصالات الضارة - وتقوم بالمضاربات الفورية. والثاني هو أن "فكر الدبابير" يغزو حتى مدارسنا العليا، إذ أن أكثر من نصف طلبة معهد"البوليتكنيك" يعتزمون تعاطي المهن المالية.

يثور النحل العامل في كل أنحاء العالم ضد الدبابير المفترسة التي تستغله. وهناك رابط قوي من القرابة يشدّ بين "الربيع العربي" و"الساخطين على الأوضاع" في مدريد والثائرين عليها في أثينا والمنتفضين في تل أبيب وحتى المشاغبين في لندن. كلهم يريدون العيش من عملهم واسترجاع كرامتهم. في كل مكان من العالم وفي الشوارع يتجاسر النحل، أي المزارعون والحرفيون وسوّاق سيارات الأجرة، والشبان المتخرّجون والفنانون ورؤساء المؤسسات والعمال ورجال الدين، على مواجهة عالم الدبابير المفترسة، أي الطغاة ودنيا المال وأصحاب الدخل غير المكتسب من كل رهط والمتمتعين بالامتيازات وأهل الخمول والكسل وكل الجالسين أمام "شبابيك الاستخلاص" (حراس بوابات الأعمال) في انتظار أن تُدفع لهم، من موارد المشتركين في كل الخدمات الممكنة، معاليم اشتراكهم أو حصولهم على الخدمة. 

حان وقت التخلص من مستبدّي البلدان العربية ومن السياسيين اليونانيين الفاسدين ومن المضاربين الأسبان في قطاع البناء ومن الحكومة الاسرائلية التي تنحاز بدون داع إلى اختيار الحرب ومن الوحوش الكاسرة المستظلة بـ"وال ستريت" وبـ"السيتي". ففي كل مكان وفي كل البلدان، إنها نفس المعركة ضد الدكتاتورية السياسية في الجنوب وضد الدكتاتورية المالية في الشمال.

إن ما سمحت الأزمة في الغرب بالكشف عنه هو نظام منحرف، مؤسس على الافتراضي وبعيد عن الابتكارات الرئيسية. وقد انبثقت اليوم رغبة في منوال اقتصادي واجتماعي جديد، يوفر المزيد من الخيرات والمنافع ومن المهندسين ومن الصناعة والفلاحة ومن الشغل للشباب وغير الشباب ولديه نظرة بعيدة المدى. فما يزال هناك متسع من الوقت بالنسبة لفرنسا وأوروبا، لتصحيح المسار.

ليس من الإنصاف أن نطلب من النحل أن يعمل أكثر لإصلاح ما أفسدته دبابير النظام المالي التي نجحت (عبر منتجات لا تخضع لقواعد، ووكالات أموال إمبراطورية، وديون سيادية ترزح تحت وطأتها) في الإبقاء على هذا النظام وفي فرضه على السياسيين الذين خضعوا إلى هذه الوحوش الجديدة المطلوب منا "إعادة طمأنتها" بلا توقف. ومن يهتمّ، في المقابل، بطمأنة البطالين والعمال والصناعيين؟ يكمن الحل في ترصّد كل المهن المغلوطة التي تقلّدتها الدبابير وكل الأوكار القريبة من السلطة السياسية حيث منها تزدهر وفي فرض الضرائب على هؤلاء المتدخلين غير المنتجين، ولكن أيضا في تجميع كل النحل والانضمام إلى ثورته ضد الدبابير.

التفكير الديمقراطي


إن التفكير الديمقراطي يعني التمرس والتمرين على التفكير الذاتي والحرّ، والمبادرة إلى نقد الذات أولاً، ومن ثم نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية وتجديد الفكر الديني. يتطلّب ذلك التخلّص من الرقيب الداخلي وقيود التفكير الداخلية والقيود الخارجية السلطوية. وتتجلى القيود الداخلية في معيقات التفكير الذاتية التي تمنع التفكير الحرّ، والتي تقبع في اللاوعي نتيجة قرون طويلة من تراكم موروثات تراثية قامعة لأيّ محاولة للاقتراب من بعض المواضيع الحارقة، ومن العوامل الذاتية الكابحة للتفكير الحرّ؛ الأيديولوجيات الحديثة التي تشكل أنساقاً مغلقة وتامّة. إنّ من أولى مهامّ التفكير الجديد -التفكير الديمقراطي- رفض قبول الأفكار الجاهزة والمعلبة، دون محيص حجيتها ومنطقيتها، ومدى ملاءمتها لشروط الواقع، مهما كان مصدر قائلها أو ناقلها. ومن أولويات التدرّب على التفكير الحرّ، الشك في أي معلومة، وعدم قبولها قبل أن تمرّ في صندوقة الرأس - حسب تعبير للمفكر جورج طرابيشي- أي في الدماغ مركز التفكير ومركز الجسم الإنساني في العصر الحديث، بعدما كان القلب هو مركز التفكير والعاطفة في العصور الوسطى. ونتيجة اكتشافات الأطباء في عصر النهضة، أصبح القلب مركزاً للدوران الدموي، ومجرد عضلة دافعة للدم إلى محيط الجسم، ونُزعت منه قوّة التفكير وقوة العاطفة أيضاً؛ أصبحت علوم العقل وعلوم القلب في الرأس، فديكارت وباسكال يقبعان في نفس المكان، وإن اختصّ الأول بالعقل والتفكير المنهجي والشك في كل معلومة قبل أن يثبت صحتها بالتجربة أو بالاستدلال، أما الثاني، فقد تمرّد على منهج ديكارت العقليّ الجافّ والبارد، لكي يعلي من شؤون "القلب" وشجونه.
لقد تحدث علماء الكلام والفلاسفة في العصور الوسطى كثيراً عن العقل، لكن أي عقل؟ إنه عقل المطلق كما يقول المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه "مفهوم العقل"، لذلك لم يستطيعوا أن يخرجوا من دوامة البحث في الميتافيزيقا والإلهيات، نحو العلم التجريبي، أي نحو الطبيعة واكتشاف قوانينها. 
إن العقل عند الفلاسفة المسلمين في العصور الوسطى-وكذلك عند الفلاسفة الأوروبيين في الحقبة اللاتينية المسيحية- مفهوم نفسانيّ، أي متعلق بالنفس؛ والنفس متعلقة بما هو فوق النفس، أي الروح، و"العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة" كما يقول أبو حامد الغزالي، إنه عقل منفعل (أو عقل بالقوة /أو عقل هيولاني، أي بالملكة وليس بالاكتساب)، أي عقل لا يتحرك إلا بقوة فاعلة تأتي من فوق، أي بواسطة "العقل الفعّال"، الذي يستمدّ نورانياته من قوة سماوية أعلى منه، وهكذا حتى الوصول إلى المحرك الأول بمصطلحات أرسطو، أو الله بحسب الديانات التوحيدية.
إنّ التدرب على التفكير الحرّ يعني القدرة على الشك، والتحرّر من سحر اللغة والخطابة التي يجيد استخدامها "سدنة الهيكل"، والعقول التي ما زالت تدور في فلك "أبستيمية" العصور الوسطى. إن التفكير الحرّ ضدّ التكفير، الذي هو قمع للتفكير وإرهاب للمفكر الحرّ. لذلك، لا بدّ من رفع أية وصاية على عقول الناس وضمائرهم، وإطلاق حرية التفكير وحرية الاعتقاد، فـ"لا إكراه في الدين" (سورة البقرة : 256 ) و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (سورة الكهف: 29 ). 
إن الحريات السياسية على أهميتها، لا تكفي لتثبيت الديمقراطية كثقافة مجتمعية؛ إنما على العكس، إن الاقتصار على العملية السياسية، يمكن أن ينتج مخاطر جمّة على النظام الديمقراطي الوليد، ويؤدي بنا إلى العودة إلى الاستبداد باسم الديمقراطية وخيار الشعب، وبأشكال أخرى، غير الشكل العائلي العسكري والأمني، وبالتالي، تضيع كل نضالات الشباب وتضحياتهم الكثيرة هباءً. 
إن التفكير الحرّ المتخلص من كل مذهبة وأفكار مُسبقة، واستراتيجية الشك في ما وصلنا من أفكار ومعلومات، يذكرنا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650 )، الذي يُعدّ بحقّ مفتتح الفلسفة الحديثة، أو العصر الحديث كما يقول فيلسوف الوجود والعدم مارتن هايدغر، قام ديكارت بدور أساسي في تاريخ الميتافيزيقا الغربية، بحسب هايدغر، هذا الدور يتمثل في نظرة جديدة للإنسان تختلف عن نظرة القرون الوسطى، التي كانت تعتبر الإنسان مخلوقاً يتلقى اليقين من قوة سماوية عليا، لقد أصبح الإنسان بعد ديكارت "ذاتاً" حرّة فاعلة وخلاقة لأفعالها، أصبح الإنسان ذاتاً تهب الحقيقة لكل شيء؛ لقد أصبح هو مركز الكون، ومسمّي الأشياء ومعلّلها، إنّه مقرّ اليقين والحقيقة، لقد قرّر الإنسان تعلّم الأسماء كلها، أي قرّر فهم العالم والسيطرة عليه بواسطة التسمية، والذي هو أكثر خطراً ودلالة من أي "ثورة كوبرنيكية" في المنهج، هو قرار ساري المفعول في شبكة التواصل الاجتماعي من خلال الانترنيت وظاهرة العولمة المترتبة عنها، والتي تعتبر الفصل الأخير من تاريخ الحقيقة الذي اخترعه الإنسان-الصانع (فتحي المسكيني "الفيلسوف والإمبراطورية في تنوير الإنسان الأخير"، المركز الثقافي العربي، ط1 :2005 ، ص:191 ).
إن الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة يعني الانتقال من (الإنسان-المخلوق) إلى (الإنسان-الذات)؛ إن الإنسان قد جعل من نفسه علة دلالية متعالية لمعنى العالم حين جعل من العالم موضوعاً للمعرفة والسيطرة، هكذا دخل الغرب عصر التقنية، أو "الهائل"le gigantesque ) ) بلغة المسكيني، أما نحن فما زلنا نتخبط في عالم "الجليل"، مع قشرة تقنية حديثة، لا تصل إلى امتلاك ماهية الحداثة، نحن نستعمل "الهائل" دون أن نعيش من داخله.

 لقد انتشرت مقالة هايدغر عن ديكارت مفتتح العصر الحديث، ولم ننتبه إلى ما قاله هيغل عن ديكارت في "محاضرات في تاريخ الفلسفة" - يقول هيغل عن فلسفة ديكارت: "الآن وقد وصلنا لأول مرة إلى فلسفة العالم الجديد والتي تبدأ بديكارت، فمعه ندلف إلى فلسفة تقف على قدميها، فلسفة تدرك أنها تأتي من العقل، وهذا الإدراك أو الوعي بالذات ما هو إلا لحظة جوهرية للحقّ أو الحقيقي، فهناك نستطيع أن نقول بحق إننا مع أنفسنا، ونستطيع أن نقول بحق إننا مع أنفسنا، ونستطيع أخيراً أن نصبح، مثلما يفعل البحّار، بعد رحلة طويلة في بحر هائج.. الأرض.. الأرض.. والمبدأ الأساسي في هذه الفترة الجديدة هو الفكر، هو التفكير الذي ينبثق من ذاته" (نقلاً عن كتاب "الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين"، تأليف محمود رجب، دون ناشر، ص: 90 ). 
يشرح ديكارت في كتابه الشهير "مقال في المنهج"، القيادة السليمة للعقل والطرق المؤدية إلى الحقيقة في العلوم، وأولى قواعد هذا المنهج هو مذهب الشك "عليّ أن ألا أقبل أبداً أيّ شيء على أنه صادق إلا إذا كنت أعلم يقيناً أنه كذلك". 
لقد استعمل ديكارت طريق الشك المنهجي، حتى توصل إلى فكرة لا يمكن الشك في وجودها، وهي التفكير، وهي التي أوصلته إلى مبدأ الكوجيتو "أنا أفكر إذن أنا موجود"؛ إن الكوجيتو، بحسب علي حرب، قراءة للعلاقة بين الأنا والفكر والوجود، يصبح فيها الوجود ذاتا مفكرة، ويصبح التجديد اشتغالا دائما على الذات، ومن الفكر-العقل، بدأ ديكارت يستعيد إيمانه بذاته، وبدأ يبني مذهبه الإيجابي في العلوم، بعد مسيرة طويلة في الشك في كل شيء.
ويجب أن نميز بين الشك المنهجي الديكارتي والشك الراديكالي لفلاسفة ما بعد الحداثة الذين يبشرون بالنزعة النسبية، ونشر خطابات مبهمة وتحليلات ذات طابع صوفي، لا يمكن البرهنة عليها، إن الشك المنهجي مهم، لأنه يعيد النظر في التجارب والأفكار، وذلك للوصول إلى نتائج أكثر تماسكاً، بينما الشك الذي يبثه فلاسفة ما بعد الحداثة، يهدف إلى تدمير أسس المعرفة العلمية.
إذا دخلنا المرحلة الديمقراطية ونحن نتلمس مبادئ ديكارت، نكون قد خطونا خطوة عظيمة في تجاوز حقبة طويلة من الاتكالية في التفكير، ناهيك عن منع التفكير الحرّ وتجريمه من قبل سلطات الأمر الواقع السياسية، والسلطات الدينية التي تفرض تفسيرها الأحادي للنص الديني، صحيح أن فلسفة ديكارت تعرضت للنقد وتم تجاوزها من قبل فلاسفة الغرب، لكن هناك ما يبقى من مبادئ ديكارت في الخلاصة، أي بعد النفي؛ نفي ما ترسب فيها من تصورات غير مكتملة، نتيجة نقص العلوم وصعوبة التخلص من آثار الأيديولوجيات في اللاوعي.
إن ما هو مفيد لنا في هذه المرحلة من حياتنا، من فلسفة ديكارت، هو قيام "الذات" المستقلة، بعد أن أعلن ديكارت عن ميلاد الذات الإنسانية في التاريخ، والانتقال من "عالم-الآية" إلى "العالم-الموضوع" بلغة المسكيني، عالم ديكارت ونيوتن وغاليليو وكوبرنيكوس، وسوف يقول هايدغر، أنه عالم منع الوجود من أن يكون هو نفسه، من أن يعبر عن نفسه، أن يكون علامة نفسه، لكن هذا وضع يتجاوز واقعنا الذي ما زال يرسف في التقليد ومخلفات العصور الوسطى. كما أنّ مذهب الشك، يحصننا من قبول الأفكار المسبقة والحقائق السوسيولوجية، مهما كانت السلطة التي تبثها أو تحاول تثبيتها كحقائق علمية. 
يقول ديكارت في "التأملات الأولى" : "كنت قد اكتشفت منذ زمن طويل أني قد تلقيت مجموعة كبيرة من الأفكار الخاطئة في سنوات عمري الأولى، لقد تلقيتها على أساس أنها صحيحة تماماً ولا يرقى إليها الشك، ولكنني اكتشفت أن كل ما أسسته على هذه المبادئ المهتزة لا يمكن إلا أن يكون مُشتبهاً به ولا يقين به.. ومن ثم قررت بشكل جدي أن أنفصل عن تلك الأفكار وأتخلص منها، وأن أبتدئ التأسيس من جديد، وبدا لي أنه لا مندوحة من هذا العمل إذا ما أردت أن أبني شيئاً راسخاً في مجال العلوم..". ولكي ينخرط ديكارت في مشروعه الجديد لبناء فلسفة جديدة، قرر "أن يدمر كل أفكاره السابقة.."(نقلاً عن هاشم صالح "الانسداد التاريخي"، ط1 2007 ، دار الساقي).
صحيح أن الغرب دخل عصر ما بعد الحداثة، حيث النقد الجذري للعقل كما دشنه الرومانسيون وأصّله نيتشه وهايدغر، لكن هذه وضعية تاريخية غربية، لا يجب إسقاطها على واقع العقل والفلسفة في العالم العربي والإسلامي، ومن دون أي نزعة للانكفاء عن فلسفة مابعد الحداثة، أو اعتبارها مؤامرة لإبقائنا بعيداً عن مكتسبات الحداثة كما ينظر البعض من المثقفين، ما يلزمنا في هذه المرحلة تثبيت "اللوغوس" (العقل) على حساب اللاعقل الذي أكل كل شيء في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية.
إن حاجتنا لفلسفة ديكارت، تبرز مع تنامي خطابات ما بعد الحداثة والتي تحاول حذف الابستمولوجيا لصالح الهيرمينوطيقا (التأويلية)، إن حذف الابستمولوجيا بالنسبة لوضعنا التاريخي، يعني إهمال العلوم الطبيعية، في وقت نحن في أمس الحاجة إليها. لذلك، فإن فلسفة ديكارت المتوازنة تبقينا في حالة توازن بين التفسير العلمي ، والتأويل اللغوي والأنطولوجي، بحيث لا يطغى طرف على طرف آخر، لأن الانغماس بالعلوم الطبيعية يوهمنا باليقين العلمي، الذي قد ينعكس على مستوى الدين والتاريخ، مما يؤول إلى التعصب والتزمت والأحادية، فالتأويلية تقينا من التفسيرات الأحادية التي تريد القبض على الحقيقة والنص. إن الكوجيتو الديكارتي يستحيل أن يجد موقعه ومسكنه وسط الكتابات المتناثرة والمتشظية لفكر ما بعد الحداثة، فكر الاختلاف (هايدغر، فوكو، دريدان دولوز، ليوتارد). وكما يقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا لارويل، فإن الكوجيتو يصبح في عالم خطابات فلاسفة الاختلاف، عبارة عن فوضى وتبعثر في التفكير، أي "Ch(a)o-gito " (محمد شوقي الزين "تأويلات وتفكيكات"،المركز الثقافي العربي، 2006 ، ص:204 ). ويؤكد سعيد ناشد أهمية الفلسفة الديكارتية بالنسبة للديمقراطية، فهو يؤكد أنه "لا وجود ديمقراطية "لا ديكارتية"، والديمقراطية التي تبشر بها فلسفات اللاوعي "سوف تكون ديمقراطية دون ذوات فاعلة، هي مجرد صناديق اقتراع.. يقوم فيها ناخبون غير فاعلين بانتخاب حكام غير فاعلين بدورهم"، هكذا تتحول الديمقراطية إلى سوق (راجع مقالة سعيد ناشيد أزمة أسس الديمقراطية، موقع الأوان، 6ك1 2009 )، فإذا كانت الديمقراطية اللاديكارتية في الغرب، تنخفض إلى "سوق"، فإنها في العالم العربي والإسلامي، سوف تتحول إلى سوق عكاظ للإسلاميين وخطاباتهم التكفيرية.
الديمقراطية لا تتناسب مع العقل الدوغمائي، العقل الذي لا يناقش ولا يحاور ولا يتساءل، وبالتالي لا يعتبر الرأي الآخر. إن جوهر الديمقراطية وروحها النقد، أي العقل النقدي الذي هو نقيض العقل الدوغمائي؛ فالديمقراطية، مثلها مثل العلمانية والمجتمع المدني، ابنة عصر الأنوار، ومنذ كانط اعتبرت الأنوار أنّ العقل النقدي يشتغل بالمساءلة والمراجعة والمحاسبة. كل نقد هو تفكيك لأبنية الواقع وروابطه من أجل إعادة تركيبها على نحو جديد، كما يقول علي حرب، وهو يقوم على الفكر الإشكالي الذي يتجدد بكسر القواقع الفكرية الخانقة، كما يقوم على النظرة النسبية للنتاجات الفكرية والعلمية، وكذلك على التعددية في التأويل للخطابات الدينية والدنيوية، بعكس العقل الدوغمائي، الذي هو عقل أحادي، يقتل حيوية الفكر ويحول دون تجدد الأفكار.
الديمقراطية الإجرائية على أهميتها، لا تؤدي إلى مضمون الديمقراطية، وهو بناء الذات المستقلة التفكير، الذات الواعية والقادرة على الخلق والإبداع، وعلى قول "لا"، لقد كتب فيلسوف الايبستمولوجيا الفرنسية غاستون باشلار كتاباً أسماه "فلسفة لا"، تعبيراً عن غضبه على وضع العلوم والمنهجيات في بداية القرن العشرين.
إن المواطن الواعي والمستقل في تفكيره، هو الذي يحدس بأية مخاطر على النظام الديمقراطي، قد تؤدي إلى الانزلاق إلى شكل آخر من الاستبداد عن طريق صناديق الاقتراع، كما حدث في ألمانيا في الثلاثينات، وكما اختطفت الثورة الإيرانية على يد رجال الدين، الذين يقمعون الإيرانيين باسم الوصاية على المقدس وتفسيره.
إن الديمقراطية تحتاج مواطنين وليس رعايا؛ تحتاج إبداعاً وليس تقليداً، تحتاج الحرية قبل العدالة، العدالة نتلمسها عن طريق الحرية. والديمقراطية أخيراً، تحتاج نقد التراث وتجديده، بشكل يتلاءم مع متغيرات العصر.

لِأنك إنسان

يقولون لنا دائما بأن أمهاتنا ولدتنا أحرار ولكن عندما اصطدمنا بهذا الواقع أدركنا بأننا لو نولد أحرار بل ولدنا عبيد لكل شيء..فالبعض منا حلل لنفسه السؤال,وسأل:هل نحن أحرار أم أننا عبيد لكل شيء؟؟؟

الأسئلة دائما تكشف لنا الخفايا,ولأننا أمة لا تسأل ولا تبحث عن الحقيقة تجاهلنا أنفسنا فأصبحنا عبيد ونحن لا نعلم..من الممكن أن يكون هنالك البعض يعلم بأنه عبدٌ لكل شيء ولكنه لا يعترف حتى لذاته خوف
ا من كل شيء..وإذا أعترف يكون اعترافه مليء بالتفاخر والحب والاحترام لهذه العبودية ..
فالعبودية ليست شيء يدعوا للافتخار بل هي للأسف تدعوا لتغير الأخر وإجباره على فعل ما لا يريد باستخدام تِلكَ الأساليب التي تستهدف نقاط ضعف الأخر..فالضعف الذي يتمتع به البعض للأسف هو السبيل لقتله وهو حيٌ كجسد يطبق ما يُريدهُ الأخر..
وأيضا الخوف الذي تربينا عليه جعلنا عبيد حتى لذاتنا,فتلك الأفكار التي ورثناها من الغير عَرقلت مسيرتنا الفكرية والعلمية والعملي وكل شيء يدعو للتقدم والازدهار..فليس كُل شيء يقدم لنا يجب أن نستقبله بكل سرور..وليس كل شيء تربينا عليه هو الصَـح..!!

فهم قالوا لنا بأنه هو الصواب فحرمنا أنفسنا من أن نكون كما نريد..أوقَعنا على أنفُسنا دِكتاتورية تَسلب حقوقنا,فليس دائما تكون الدكتاتورية موجهة من الغير..ونحن لا ننكر بأنهم أقاموا علينا الدكتاتورية ولكننا نحن من ساهمنا بإثمارها..حرمنا أنفسنا من الهواء والضوء والغذاء وتقبلنا دكتاتوريتهم وساهمنا في ازدهارها العقيم..

نحن نعم ولدنا أحرار لمدة دقيقة فقط ولكن بعد هذه الدقيقة أصبحنا عبيد وأصبحنا ملكاً للغير..ورثنا عنهم أفكارهم العقيمة..وبعدما أصبحنا واعيين لم نفكر في نفض هذا الغبار عن عقولنا وعن كل شيء..

لقد حان الوقت..نعم لقد حان نحن لا نحتاج فقط لإسقاط النظام الحاكم ولكننا في أشد الحاجة لإسقاط نظام التفكير..فالحرية لا تؤخذ من الغير فقط بل تؤخذ من ذاتنا نحن لا أحد غيرنا..
وأن تكون حرا لا يعني فقط أن ترتدي ما تشاء وتسير كما تشاء وتتحدث مع من تريد بل الحرية الحقيقية هي أن نفكر كما نريد ونسعى لأن تكون أفكارنا مطبقة على أرض الواقع ما دامها لا تؤذي أحداً...

فحينما يسقط الحاكم ويسقط غيره وغيره,وبين السقوط والسقوط الأخر هل ستسقط الدكتاتورية الموجهة لنا والتي ساعدنا بإثمارها؟؟

تِلك الثِمار مليئة بالسم تقتل بلا رحمة وهنالك الكثير يقطف منها بوعي وبغير وعي ويأكلون ويأكلون ولا يسألون من أين لنا هذا؟؟

لو حاولنا فقط أن نسأل من أين لنا هذا لأدركنا مصدره ولسارعنا لسحق هذا المصدر من جذوره فهو لا يناسبنا والشيء الوحيد الذي يناسبنا هو أن نكون كما نريد ما دمنا لا نؤذي أحدا ولا نؤذي ذاتنا أيضا...
فالخوف يؤذينا والضعف يؤذينا والعبودية تؤذينا..ولسنا بحاجة لمثل هذه الأمور التي تؤذينا ولا تعمل لأجل الارتقاء بنا..بل هي تعمل لأجل نزولنا لأسفل السافلين..
فلا يحق لأحد من خلف أبوابه أن يسعى لأن نكون نحن كما يريد هُوَ.. !!

فنحن إنسان..ولأنك أنت إنسان وأنا إنسان..لا يجب أن نسعى لاضطهاد أنفسنا..فالثورة الحقيقية التي نحتاجها هي الثورة الفكرية وليس الثورة الدموية..فكل شخص يُقتل بتلك الثورات الدموية يٌقتل من بعده الكثير..ولكن مع كل عقل ناضج يُفكر ولا ينظر من زاويته فقط سيحيى الكثير بهناء وسعادة نفسياً وجسدياً..

ولأنك إنسان تعلم ما تريد وتسعى لأجل ما تريدْ حاول أن لا تقتل ذاتك بِأفكار غيركَ..فالتقليد الأعمى لا يكون فقط بالملابس والسيارات والهواتف وغيرها بل يكون أيضا بتقليد طريقة الأخر في التفكير..ولأن الكثير منا يفكرون مثل بعضهم البعض نعاني من الكثير من الامور التي لا تسعى للتجديد والتقدم بل تسعى للتدمير والتخريب..ولكن لو هؤلاء البعض يفكرون بطريقة تسعى للتقدم لكان الحال أفضل بكثير..

فهنا لا أقصد بالتقدم فقط التقدم العلمي والعملي بل أقصد به أيضا التقدم الفكري والسعي لتحقيق الذات..فذاتنا هي نحن وذاتهم هي هم ولسنا نحن..فليس من حق أي أحد أن يمتلك ذات الأخر..

فكن مؤمنا بأن علمك وعملك وقوتك هم السبيل لتحقيق ذاتك وثورتك على الأفكار التي ورثتها من الغير والتي أدت إلى سحق ذاتكَ..


ولأنك إنسان..لست بحاجة للوصايا الفكرية فأنت تملك الكثير لتكون كما تريد وتخلق الكثير وتسعى لأجل ما تريد ما دمت لا تؤذي أحداً..

vendredi 2 septembre 2011

الوطن والدولة والشريعة

فى الأصل كانت القبيلة هى الوطن الذى يجمع أبناءها على أساس رابطة الدم، وعندما نزلت الأديان على أوطان القبائل آمن بها من آمن، وصبأ من صبأ دون حساسية أو عقاب من شيخ القبيلة، وعندما تجمعت القبائل تحت راية الدولة الوطنية كانت إدارتها تتم على أساس التوازن بين المنافع والمصالح المشتركة دون مرجعية دينية من أى نوع، بل كانت الأعراف والتقاليد المتوارثة من قبل الأديان هى المرجعية.

ولم تخرج مصر فى تاريخها عن هذا التطور شأن بلاد الدنيا، فقد تعددت فيها الأديان دون حروب دينية أو مذهبية، وظلت التقاليد والأعراف هى المرجعية السائدة دون تمييز دينى ودون دستور يحدد المسموح والمحظور، فنالت الاحترام والتقدير من المراقبين، وأمامنا ثلاث شهادات رسمية لأجانب عن وضع الأقباط فى مصر زمن حكم محمد على باشا: أولها تقرير فى يوليو 1837 رفعه لحكومته دوهاميل، القنصل العام لروسيا، جاء فيه: «أما الأقباط الذين ظلوا على دينهم فيكادون جميعا يشتغلون فى كل المصالح، كتبة ومحاسبون، ومنهم من تفرغ للزراعة واندمجوا فى لغة الفاتحين (العربية)..»، والشهادة الثانية ما أورده جون بورنج، مبعوث الخارجية البريطانية لمصر، فى تقريره بتاريخ مارس 1839، جاء فيه: «.. ليس هناك من يتعرض لأقل مضايقة بسبب عقيدته الدينية، ويؤدى الأقباط شعائرهم الدينية فى حرية تامة، ولا فرق بينهم وبين المسلمين فى أسلوب الحياة المنزلية، فالحجاب مضروب على نسائهم كما هو مضروب على نساء المسلمين..»، وثالث هذه الشهادات جاءت فى تقرير اللورد باتريك كامبل إلى الخارجية البريطانية فى يوليو 1840، حيث قال: «إن الأقباط يشغلون مناصب فى خدمة الباشا، ويؤدى لهم الحرس ومن إليهم نفس ما يؤدونه من تحية وتبجيل لنظرائهم الأتراك.. والحقيقة أنه لا يوجد بلد أكثر تسامحا من مصر..».

وفى عام 1855 (عهد سعيد باشا) تم إلغاء ضريبة الجزية المفروضة على أهل الذمة، وصدر قرار بتجنيدهم فى الجيش، وتبرع الخديو إسماعيل للبطريركية القبطية ببعض التفاتيش الزراعية لتنفق منها على تثقيف رجال الكنيسة، وأمر ممثلى الحكومة فى الأقاليم باستقبال البطريرك عند طوافه بالبلاد استقبالا لائقا، وفى عهد الخديو توفيق صدر فى أغسطس 1880 قانون القرعة العسكرية بتكليف كل مصرى بالخدمة العسكرية بدون تمييز دينى أو اجتماعى وإعفاء رجال الدين المسلمين والأقباط من التجنيد.
ولكن ومع الاحتلال البريطانى لمصر (1882) بدأ الإنجليز يمارسون لعبة الطائفية التى مارسوها فى الهند، وأدت أغراضها فى الصراع الطائفى، فأخذت الفرقة تدب فى الصفوف، وأخذ الانتماء إلى الوطن يتهاوى ويعلو عليه الانتماء إلى العقيدة.
ومن عجب أنه عندما حان الوقت لوضع دستور فى أعقاب ثورة 1919 وبعد هذا التاريخ الطويل من الاحتكام للأعراف والتقاليد اقترح الشيخ محمد بخيت، مفتى الديار المصرية وعضو اللجنة، أن يتضمن الدستور مادة تنص على أن الإسلام دين الدولة، ومن ثم بدأت الطائفية فى مصر تطل برأسها فى ظل الدستور، والشواهد كثيرة، ثم سعت ثورة يوليو 1952 لإعادة التماسك الوطنى، فألغت المحاكم الشرعية والمجالس الملية (سبتمبر 1955)، كما تم تخفيف الشروط العشرة لبناء الكنائس التى تقررت فى 1934 حين وافق جمال عبدالناصر على طلب البابا كيرلس ببناء 25 كنيسة سنويا يحدد البطريرك أماكنها، ولم تقع حوادث طائفية آنذاك، ثم انقلب الموقف رأسا على عقب مع حكم السادات وخليفته مبارك ابتداء من النص فى دستور 1971 على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع (المادة الثانية).

وبعد ثورة يناير تجدد الجدل، حيث أعلن الإسلاميون أن المادة الثانية خط أحمر، وهو ما أخاف كل القوى السياسية وجعل كل من يتقدم بمشروع لدستور جديد يقف مترنحا أمام هذه المادة، الأمر الذى يوحى بالإصرار على بقاء مناخ الطائفية فى حماية الدساتير منذ 1923، على حين كان المصريون قبل تلك الدساتير يعيشون فى وئام وسلام بشهادة المراقبين الأجانب كما رأينا.


إن الدستور الذى يوضع على أساس أية شبهة طائفية دينية من شأنه أن يرجع بمصر إلى زمن الاحتلال البريطانى وإلى أيام السادات - مبارك.. فهل يكون الدستور أداة للرقى الاجتماعى والسياسى أم يصبح مبررا للانحيازات الطائفية؟
!

التجربة الإسلامية فى بناء الدولة

أسفر الخطاب النهضوى العربى الصنع عن العديد من الاتجاهات والتيارات التى لا تزال تقف حائرة أمام جدلية التعانق بين الدينى والسياسى، وهذه الجدلية هى التى أفرزت لنا خطابات لغوية متباينة ومتنافرة يسير كل منها فى اتجاه مغاير، تتلخص أغلبها فى مواضعات محددة مثل التبعية، والابتداع، والغفوة، والتأخر، والتقليد، ومفاهيم الحرية والديمقراطية والشورى والعدالة الاجتماعية، وغيرها من المواضعات التى تزيد من الهوة السحيقة فى اللقاء الحتمى الدين والسياسة.


ورغم أن فكرة التنوير ليست بجديدة على الخطاب العربى، بل لها مهاد تاريخى ضارب فى القدم، إلا أن معظم المنظرين العرب لا يزالون يسعون لاقتناص لحظة مقاربة بين الدينى والسياسى، والحق أن هذه اللحظة قد تحققت منذ ما يزيد على ألف سنة تقريباً، حينما مكث النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) فى المدينة المنورة، واستطاع أن يؤسس دولة فى صورتها الأولية، هذه الدولة البسيطة فى أنظمتها ومؤسساتها هى التى سمحت ولأول مرة فى تاريخنا العربى للتعايش بين الدينى والسياسى.


وهذا ما يؤكده مؤرخو العصر الحاضر، بأنه تحقق التعايش الحتمى بين الدين والسياسة فى حضارتنا العربية مع وجود خصوصية فريدة، وهى أن الدين لم يسبق السياسة، والسياسة وقتها لم تسبق الدين، لذا حدث التلاحم بينما بصورة طبيعية دون خطب أو لغط.


وبينما يصطدم المعاصرون بفكرة عدم التعايش بين الدينى والسياسى هذه الأيام لكثرة المصطلحات المتنافرة بين الاتجاهين، نرى أن التأسيس الأول للدولة فى الإسلام على يد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان منوطاً بالنجاح؛ فالبيئة العربية حينئذ كانت مهيأة تماماً لقبول كيان سياسى ذى طبيعة مغايرة غير تلك التى ألفوها وقت عبادة الأصنام، حيث القوانين عرفية تتغير وتتبدل وسط قلق مستمر من اللصوص وقطاع الطرق، وارتباط السيادة السياسية بالنفوذ الاقتصادى والتجارى مع عدم إغفال المكانة الدينية.


وأكاد أجزم بأن فكرة التنوير التى راح المتشدقون بها فى القرن التاسع عشر الميلادى لم تكن وليدة هذا العصر، بل استطاع الإسلام، وهو يؤسس كياناً سياسياً فى المدينة، أن يقدم مهاداً صالحاً لفكرة التعانق بين الدينى والسياسى، هذا التعانق حققه القرآن الكريم بتعاليمه السامية التى تناولت حقوق العدل مثل قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل" (النحل : 90)، وقوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (النساء :58)، وأيضاً تعاليم الإسلام التى جاءت تحض على إعلاء مبدأ الشورى، يقول تعالى فى محكم التنزيل: "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى: 28).


كما جاء القرآن الكريم بقاعدة فى غاية الأهمية، وهى ضابط العلاقة مع الآخر وقت السلم والحرب، يقول تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأؤلئك هم الظالمون" (الممتحنة :8،9). هذا بخلاف ما أورده القرآن الكريم فى ضرورة الامتثال عند تنفيذ الأحكام والقضاء بقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" (النساء 59).


وامتاز الكيان المؤسسى فى دولة الإسلام بالمدينة أنها أعلت شأن العقل والعناية بالعلم والبحث، والحض على القراءة والمعرفة تلك المبادئ التى ينادى بها السياسيون، من خلال الإشارة إلى ما جاء فى القرآن الكريم من العناية بالعقل والتفكير، يقول تعالى: ن. والقلم وما يسطرون (القلم ـ 1) كما قرن الله سبحانه وتعالى أهل العلم به وملائكته، يقول تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (آل عمران ـ 18).


القرآن الكريم وهو دستور الكيان السياسى فى هذه المرحلة ـ دولة المدينة المنورة ـ جاء ليؤكد أهمية مناهج الاستدلال العقلى التى يتحدث عنها الخطاب النهضوى المعاصر، وهو دستور يدعو إلى التفكير والتأمل، والقرآن الكريم يحث المؤمن على استعمال العقل إلى أقصى حد مستطاع، ويشيد بمن يستعمله، ويعمل فكره فى النظر والتدبر، واستخلاص البراهين والنتائج من المعلومات التى تتوافر لديه من الأمور الدينية والدنيوية. يقول الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب (ص ـ 29)، ويقول تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (العنكبوت ـ 43).


كل هذه التعاليم الدينية التى جاء بها القرآن وافقت الرؤى السياسية لدى أبناء البيئة العربية المتشوقة للحرية وإعلاء العقل، والناقمة على الفقر والجهل والوثنية، والرق، والظلم الطائفى والتمييز القائم على الاقتصاد، لذا من الصعوبة أن يتتبع باحث ما أية حركات مناهضة إزاء هذا الكيان الإسلامى بالمدينة، اللهم ما أثاره الكفار واليهود من قلاقل وفتن ومشكلات تتعلق بمركزهم الاقتصادى والتجارى، رغم أن الإسلام أقرّ قاعدة فضلى وهى الجمع بين العبادة والعمل، وهى قرينة أساسية فى أى كيان سياسى ناجح، حيث جاءت الدعوة إلى السعى والعمل مقرونة بالصلاة، فبعد أداء الصلاة وهى الجانب الروحى يجب على المسلم السعى إلى عمله، وهو الجانب المادى، مما يحدث التوازن فى حياة الإنسان، يقول الله تعالى: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله (الجمعة ـ 10).


والمستقرئ للحظة التعانق بين الدينى والسياسى يلمح أن الدستور الدينى وهو القرآن الكريم استطاع أن يحقق كافة مطالب المنتمين إليه، فكما منح القرآن راحة النفس والطمأنينة للمتعبدين والقائمين والركع السجود وأنشأهم على الطاعة والقناعة، منح الطامحين سياسياً إلى الارتقاء والصعود السياسى، ولولا هذا ما كنا قد قرأنا عن اجتماع المسلمين فى سقيفة بنى ساعدة لتولية خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).


ورغم هذه التجربة الرائدة فى المزج بين الدينى والسياسى، إلا أنه لا يزال المنظرون والسياسيون يعقدون عزمهم على تحديد إجابة لسؤالهم الملح: من يسبق الآخر؟ وكأن لحظة السبق تلك هى التى ستمنح فرصة الأفضلية، أو بيان الدور الريادى لكلا الظاهرتين. و


تجربة الدولة فى الإسلام كانت أكثر من ناجحة ظهر ذلك من خلال وفاء الخلفاء الراشدين الأربعة بعملية التعانق والمزج بين السياسى والدينى دونما خلل، لذا لم نقرأ سطراً واحداً فى كتب التأريخ الإسلامى منذ بداية تكوين الكيان الإسلامى السياسى بالمدينة وحتى مقتل الإمام على بن أبى طالب (رضى الله عنه) عن أى حرج سياسى مصدره الدين الإسلامى، بل كان الإسلام وقتها باعثاً قوياً ومكيناً للتمكين والاستخلاف فى الأرض ومن ثم إعمارها.


لكن ما غاب عن بعض المنظرين السياسيين المعاصرين ورواد الخطاب النهضوى العربى أن لحظة السياسة ينبغى لها أن تسبق لحظة الدين، فهو فى نظر بعضهم يعنى النزوع وراء سطوة الحداثة ورفض التراث بجملته، وهذا مخالف تماماً لطبيعة الكلمة والدلالة. إلا أن النهضة والنهضوى والاستنهاض وكل الكلمات المنحوتة من لفظة نهض لا تعنى تقويض البناء القائم على التعليم الدينية مطلقاً، بل هى إشارة عميقة إلى هضم التراث وتناوله بالتحليل وجعله منطلقاً وقوياً للبناء والاستعلاء المستقبلى.


وفى خضم التصارع الفكرى فى الخطاب العربى النهضوى بين الدينى والسياسى، راح يبحث أنصار كل فئة عن الدور الريادى لكل منهما، وإثبات من الأقوى فى تشكيل هوية المواطن، لذا فرغ الشباب من الدين، وفرغت العقول من السياسة، لأنهم افتقروا إلى تواجد وتعايش سلمى بينهما، وصار الفرد يبحث عن رمز مطلق للسلطة الزمنية والروحية، متغافلين فى ذلك تاريخية الإسلام الذى جاء بقرآنه ليتفاعل مع السياسة، لذا فالسؤال الذى طرحناه مسبقاً: هل الدين والسياسة لحظتان متعاقبتان؟، الإجابة بالنفى فكلاهما لحظتان مترابطتان.

jeudi 1 septembre 2011

جندب بن جنادة الغفاري.....من اوائل الأشتراكيين في عصر الأسلام الأول!


جندب بن جنادة الغفاري... أبو ذر الغفاري...من اوائل الأشتراكيين في عصر الأسلام الأول! فهو شيوعي على سجيته، غذاه وعلمه الأمام علي ع عليها! أمتنع عن مبايعة كل الولاة بما نسميهم خلفاء راشدين!؟ وأكره على بيعة أبي بكر! رفض كل الأموال التي بذلت له في سبيل تغيير رأيه او كتم أفكاره! أعترض على سيرة الحكام في بيت المال!! نفوه للشام ثم أعيد الى دولة الحكام... فكتب عثمان " ان يحمل من الشئام الى المدينة على قنب يابس وأن يعنّفوا به السير"... ففعل معاوية! وصل المدينة بعد أن تسلخ لحم فخذيه ثم نفاه عثمان الى الربذة... فبقي هناك حتى مات قهرا وفقرا وذلا... لكنه في صحائف التاريخ شهيد الحق شهيد الربذة.
قال محمد ص :" يا أبا ذر، أكتم هذا الأمر، وأرجع الى قومك! فاذا أبلغك ظهورنا، فأقبل"
فقال:"والذي بعثك بالحق، لاصرخن بها بين أظهرهم"
أنه كلمة الحق والسيف الذي أشهر من أجل الفقراء "عجبت لمن يدخل بيته ولايجد رغيف خبز كيف لايشهر سيفه ويقاتل" أنه أبا ذر المصلح الأجتماعي، أراد محاربة السلطة الباغية بالطرق السلمية...وهكذا ديدن الشيوعي العراقي حين نزل من الجبل العراقي بعد الأحتلال! ووضحت الروؤيا...وضع زهرة النرجس في فوهة بندقيته الى حين! وقال للنصير الشيوعي هيا الى العمل والبناء لفكر الانسان العراقي فلقد همشه الطغاة والآن يمر بتهميش جديد ربما يصل للمسخه! فهيا يارفاق امشقوا قلمكم وصوتكم لبناء الأنسان العراقي لفجره الجديد! اذا لم تبني من داخلك المحبة والديمقراطية كيف تطبقها!؟ فأخذ يشرح مواقفه المستنده على الواقع الموضوعي والفلسفة الماركسيةوتجربته الذاتية وعبر ودروس الآخرين! والنضال من أجل وطن حر تعددي موحد وشعب يأكل لقمته هنيئة بسعادة في غدا عراقي جديد! هذا أبو ذر العصر الشيوعي العراقي...ولهذا كان يدعو الى قوت الشعب وعدم التبذير في المال العام!! فكيف من يسرقه ويأكل السحت الحرام! لم يرق لمعاوية ولحكامنا هذا الكلام!!؟؟
كان أبا ذر يعتقد أنه لايجوز لمسلم بأن يكون له في ملكه اكثر من قوت يومه وليلته...مستندا على الآية الكريمة(( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب آليم)) كان أبو ذر...والشيوعي العراقي لا يزال... رمز للتضحية من أجل وطن حر وشعب سعيد، رغم كل الضغوطات الأقتصادية والأجتماعية والنفي والمقاطعة وصولا للشهادة... حارب الفساد بغير السيف، لأنه لم يرغب بأراقة دم أنسان عراقي، لكن حين فرض عليه الواجب للدفاع عن النفس عن الوطن والشعب حمل البندقية، قاتل وكأن نعم النصير المناضل القديربالفكرة الوضاءة التي تسبق ومظة الطلقة...لم يكن أباذر رجل حرب... أنه صاحب قضيته الأنسانية كأنها ثورة أجتماعية، نعم أنه الثائر الأول في صدر دولة الأسلام.... فكان يخطب في أهل الشئام فيقول: "يامعشر الأغنياء والفقراء... بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولاينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبههم وظهورههم"... حاول بنو أمية اتباع أسلوب التهديد والوعيد والفقر والجوع والقتل...وكان رد أبي ذر: ان الخلفاء! وبني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحب اليّ من ظهرها والفقر أحب اليّ من الغنى....كما حاول الخلفاء! وبني أمية نبذ أبي ذر اجتماعيا وابعاد الناس عنه(كما فعلوا مع علي ع وغيره! ولقد اصدروا فتوة بتكفيره!!؟؟) لهذا منعوا الناس من الأقتراب اليه، ووصل ان الناس كانوا يفرون منه عندما يقبل... حاولوا أعطائه الأموال بغير حق وذلك كي يتم فضحه أمام الملأ...قطع عطائه وذلك من أجل الضغط الأقتصادي عليه... ثم النفي الى الربذة وكان أبو ذر لايحب هذا المكان...فالصدق الشيوعي العراقي هو الصدق الجسور، هو جوهر حياة أبي ذر كلها...صدق باطنه وظاهره، صدق عقيدته وفكره وصدق لهجته...ولسوف يحيا صادقا لايغالط نفسه ولايغالط غيره لكنه مع الحوار البناء ولا يسمح لأحد ان يغالطه ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء... لكن الصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر...انما الصدق جهر وعلن...جهر بالحق وتحد للباطل تأييد الصواب ودحض للخطأ... الصدق الشيوعي ولاء رشيد للحق وتعبير جريء عنه وسير حثيث معه... ويرى ابو ذر الخطر!!
ان آلوية المجد الشخصي توشك ان تفتن الذين كل دورهم في الحياة ان يجمعوا المال بعد ما كانوا يريدون رضا الله!! توشك ان تفتن الذين كل رسالتهم بعد الاحتلال ان يجعلوا من الدنيا زخرفا وغرورا لامزرعة للأعمال الصالحات ان المال والدين الذي جعله الله خادما مطيعا للأنسان يوشك ان يتحول الى سيد مستبد ومع من؟ من يدعي أنه من اصحاب محمد ص الذي مات ودرعه مرهونة في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه ... ان خيرات أرض العراق التي ذراها الله لأهل العراق جميعا وجعل حقهم فيها متكافئا توشك ان تصير حكرا ومزية... ان السلطة التي هي مسؤولية ترتعد من هول حساب الله عليها أفئدة الأبرار، تتحول الى سبيل للسيطرة وللثراء وللترف المدمر الوبيل... ليس دوره اليوم ان يقتل...بل ان يعترض وليس السيف أداة التغيير والتقويم بل الكلمة الصادقة ، الآمنية المستبسلة، الكلمة العادلة التي لاتضل طريقها ولا ترهب عواقبها...لقد اخبر الرسول يوما وعلى ملأ من الصحابة ان الارض لم تقل وان السماء لم تظل اصدق لهجة من أبي ذر ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة وصدق الاقناع فما حاجته الى السيف؟ ان كلمة واحدة يقولها لأمضى من ملء الأرض سيوفا... وهذا هو الشيوعي العراقي في عصر الأحتلال وأذنابه! والآن الراية التي يلتف حولها الجماهير والكادحون...وأصبح لايمر بأرض بل ولا يبلغ أسمه قوما! الا أثار تسؤلات هامة تهدد مصالح ذوي السلطة والثراء... فلقد اتخذ هذا الثائر الجليل علما وكان الشعار المنقوش على العلم الأحمر سوى مكواة تتوهج جمر ولهبا فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان... وطن حر وشعب سعيد...كأنه نشيد يردده الأنس عنه بهذه الكلمات:بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة... ويوم حسابهم في الارض قريب فهل يتعضوا ممن سبقهم بالقريب طاغية العصر وأبن زانية الليل صدام المباد فهل يكفيهم دليل ووعيد!!؟؟ وهكذا يضع الآناة مكان الأنقلاب والكلمة الشجاعة مكان السيف فيترك لغة الحرب هذه ويعود للغة المنطق والأقناع فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط وأنهم جميعا شركاء في العراق والرزق وأنه لا فضل لأحد على أحد الا بالتقوى... وأن أمير القوم ووليهم هو أول من يجوع اذا جاعوا وآخر من يشبع اذا شبعوا ولنا في الأمام علي ع اسوة حسنة.... لقد قرر ان يخلق بكلماته وشجاعته رأيا عاما يكون له من الفطنة والمناعة والقوة مايجعله شكيمة لأمرائه وآغنيائه وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم او محتكرة للثروة...
والرحمة لمله فاضل الرادود النجفي حين قال في أحد قصائده ... عن الشيوعي العراقي:

مثل أبو ذر الغفاري بهل عصر... لاجنه سياره ولا حواله قصر 
مواويل

الربذة مستورة وعفيفه
وغصب ساقوها الجناة
للكرامة انبتت مرقد
بوحيه ترتيل الصلاة
الغفاري سور ثوره
بيرغ ايعلم الحياة
خبزه لا ينتهي طعمه
بطعم حب الامهات
الحزن وي طينه نايم
والظلم باجفانه بات
بالذبح سچينه سوده
كذبت بدمنه الدواة
من جناة لجناة.. من جناة لجناة
بثگل محموله الوصايه
وصوت اباذر سبات
من على للربذة سوره
بگاعي والراعي مات
من اباذر رساله
ساريه وراية أباة
لا فرح وامنيتي تحلم
ولا تمل مني الغزاة
ولاكحل لعيوني مرود
وشفت كل الامنيات
في خبر كان ماتن
وضيعت حلو الصفات
أمنيات أمنيات... أمنيات أمنيات
الغفاري احرامه ابيض
بالعدم شنقوه قضاة
طافت الكعبة اعل سوره
ورجعت احقاد البغاة
بالصبر ينشدني گلبي
أوزعت حب الثبات
وگالو الباچر قضيه
اثنينه انوقع سويه
راح تصدر قرارات
قرارات قرارات... قرارات قرارات
يمكن يبيعوني هلي
وانتظر حد الممات
والمواويل الحزينة
خرسه تتحدى الطغاة
لا يغني الفرح نايل
وبحه مامش للغناة
الغدر بايگنه غفله
خطكم أحمر سيئات
سيئات سيئات سيئات سيئات
آنه وانت وجسري شاهد
وصبغ دمنه الحسنات
من الطفوف ونزف يضحك
كتبت حروفه الأباة
كتبت حروفه الأباة
وطني... يا وطن
جرح سچينتك بروحي دواها
ونار الوجد باحشانه دواها
منه دايى أويه دايك دواها
تطيب جروحنه ونفرح سويه
****
 شعر كامل سعدون العتابي 

mercredi 10 août 2011

الثورة فى الإسلام (3)


«عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته!.. كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس»
اختفى أبوذر الغفارى من كتب التاريخ وعاصمة الدولة الاسلامية، طوال خلافة عمر بن الخطاب، ولما بويع عثمان بن عفان ظهرت إشارات المؤرخين عن إقامة الغفارى فى الشام، وتواترت أخبار عن معارضته لسياسة الخليفة المالية وطريقة تعيينه للولاة، وتركزت هذه الآراء الحادة ضد معاوية، الذى انتقد الغفارى منه البذخ الذى يعيش فيه، واتهمه بتبذير أموال المسلمين، فقد بنى قصر «الخضراء» وأنفق عليه الكثير، فقال له أبوذر: يا معاوية، إن كان هذا من بيت مال المسلمين فهى الخيانة، وإن كان من مالك فهو الإسراف، وسعى معاوية لاحتوائه مرة بالترغيب ومرات بالترهيب، لكنه واصل انتقاداته، حتى إنه دخل مجلس معاوية وهو يهتف: «يا أهل هذا المجلس أتاكم القطار يحمل النار، اللهم العن الآمرين بالمعروف، التاركين له، والناهين عن المنكر المرتكبين له»،
واستمر محامى الفقراء فى توجيه انتقاداته الثورية، ونشر دعوته للتشيع، فى ربوع الشام وخاصة منطقة جبل عامل، فكتب معاوية إلى الخليفة يقول له: «إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام.. تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك.. فقد حرف قلوبهم، وبغضك إليهم فلا يستفتون غيره، ولا يقضى بينهم إلا هو.. فإن كانت لك فى القوم حاجة، فاحمله إليك»، وذكر ابن بطال فى كتاب «الغدير»: أن جيش معاوية كان يميل إلى أبى ذر، فأقدمه عثمان خشية الفتنة، وهكذا كان بقاء الثائر فى الشام خطرا، وعودته للمدينة أخطر، وعندما عاد عاتبه عثمان بشأن الشكوى، فقال له: «نصحتك فاستغششتنى، ونصحت صاحبك - يقصد معاوية - فاستغشنى»،
 ولما أعطى عثمان أموالا لمروان والحارث بن الحكم تصاعدت معارضة أبى ذر للسياسة المالية، وخرج يرفع صوته فى الطرقات وهو يقول «بشر الكانزين بعذاب أليم»، ويتلو قوله تعالى: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم»، وهكذا كان «أول متظاهر» فى الإسلام بالمعنى الحديث لكلمة التظاهر، بل إن شعاراته تتشابه مع الشعارات الحالية مثل «الفقراء أولا»، وضرورة محاكمة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، وتحفظ كتب التاريخ الكثير من الشعارات التى طرحها الغفارى، بنفس أسلوب المعارضة السياسية هذه الأيام ومنها: «عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس»، «إذا سافر الفقر إلى مكانٍ، قال الكفر خذنى معك»، «أحب الجوع ليرق قلبى، وأحب المرض ليخف ذنبى، وأحب الموت لألقى ربى»، «إنى لكم ناصح وإنى عليكم شفيق»، «إن بنى أمية تهددنى بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحبّ إلىّ من ظهرها والفقر أحبّ إلىّ من الغنى»،
 وكانت أقوال أبى ذر تبلغ عثمان، فأرسل إليه أن يتوقف، فقال أبوذر: أينهانى عن قراءة كتاب الله؟، وغضب عثمان، وأمر بإبعاده إلى الربذة، وقيل إن الغفارى لم يكن يحب ذلك المكان القاحل فقال: هل أخرج إلى أرض لا زرع فيها ولا ضرع، فانبرى حبيب بن مسلمة من بين حاشية الخليفة وقال له بخيلاء: لك عندى خادم وألف درهم و500 شاة، فقال له أبوذر، وكان قد هاجم إسرافه وتبذيره من قبل: أعط ألفك وشويهاتك وخادمك لمن هو أحوج منى، فأنا أسأل حقى فى كتاب الله، ولا أستجدى. وأمر الخليفة بإخراج أبى ذر إلى المنفى سريعا ومن دون أن يكلم أحدا تجنبا لتحريضه الناس، وطلب من مروان حراسته، وعند مشارف المدينة، لحق به على بن أبى طالب وأخوه عقيل، والحسن والحسين، وعمار بن ياسر، ليودعوه، وقال له الإمام: «يا أبا ذر إنك غضبت لله، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى، ونفوك إلى الفلا، والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا، ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا.. يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل»،
واستمر أبوذر فى منفاه يهاجم الأغنياء المترفين، ويناصر الفقراء المظلومين، ويندد بسياسة عثمان فى إغداق الأموال على فئة من الأمويين، ويعارض اختِيار الولاة والمسؤولين من ذوى القربى، حتى لو كان بعضهم جاهلا مثل عبد الله بن أبى سرح الذى ولاَّه على مصر وكان أخاه من الرضاعة، وبعضهم كان سكيرا فاسدا مثل الوليد بن عقبة الذى ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبى وقاص، ولما ذاعت فضائحه عزله وولى مكانه سعيد بن العاص الذى كان متسلطا مغرورا، يردد دوما أن هذه البلاد «بستان قريش»، فيما عانى الغفارى حياة الضنك فى منفاه حتى وهن ومرض فجلست زوجته بجواره تبكى، فسألها: فيم البكاء؟، فقالت: لأنك تموت فى الصحراء، وليس معى أحد، ولا عندى ثوب أكفنك فيه، فقال: لا تبكى، فإنى سمعت رسول الله يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة، فتشهده ثلة من المؤمنين، ولما مات مر عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فسأل: ما هذا؟ قيل: مات أبو ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله: يرحم الله أباذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ثم صلى عليه، ودفنه.

الثورة فى الإسلام (2)


الغفارى أول ثائر معارض للحكم فى الإسلام
كانت فتنة مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضى الله عنه- أول وأخطر فتنة هزت دولة الإسلام، وأثرت على مستقبلها، ولايزال تأثيرها مستمرا حتى الآن، على المستويين السياسى والعقائدى، لكن الخلافات السياسية التى أدت إلى اغتيال عثمان لم تبدأ فى عهده، لكنها بدأت عقب وفاة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما عرف بـ«يوم السقيفة»، حيث دب الخلاف على البيعة وتسمية من يخلف الرسول، فقد اجتمع عدد من الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة ورشحوا سعد بن عبادة للخلافة، وحين سمع عمر بن الخطاب بهذا الأمر، أخبر أبا بكر وأسرعا إلى السقيفة، وأكدا أحقية المهاجرين فى الخلافة، فاقترح الأنصار أن يكون من المهاجرين أمير، ومن الأنصار أمير، فرفض ابن الخطاب ورشح أبا بكر للخلافة، فيما رشح آخرون الإمام على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ
وعندما تمت البيعة لأبى بكر رضى الإمام على بالأمر، لكن عددا من الصحابة أعلنوا رفضهم البيعة وقاطعوا السقيفة، وكان فى مقدمتهم أبوذر الغفارى، الذى لعب دورا كبيرا فى رفع صوت المعارضة السياسية، خاصة أثناء خلافة عثمان بن عفان، وقد فسر معظم المؤرخين موقف الغفارى باعتباره أول تكريس واضح لفكرة التشيع لأهل البيت، مثلما كان يرى، ومعه بنو هاشم، وعدد من الصحابة مثل عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو وأسامة بن زيد، وآخرون. وحدد بعض المؤرخين عدد من جاهروا بمعارضة بيع أبى بكر فى 12 صحابيا (6 من المهاجرين و6 من الأنصار)،
وبرغم آلاف الصفحات التى كتبت عن حادثة السقيفة فإن أغلب الكتابات لم تعتبرها فتنة، بل أشارت بعض الكتابات الحديثة إليها، باعتبارها نموذجا ناصعا للديمقراطية الإسلامية المبكرة، وعدم الانقياد وراء رأى واحد، لأن المهم أن المعترضين احترموا رأى المؤيدين ومضت بيعة أبى بكر القصيرة فى سلام، وواجهت الدولة الناشئة التحديات الجسيمة التى تعرضت لها بعد وفاة الرسول. ويمكننا الآن أن نفهم من خلال المفاهيم السياسية المعاصرة طبيعة الاختلاف بشأن بيعة أبى بكر، كما يمكننا أن نفهم الاستقرار على خلافته بعد ذلك، فقد كان هناك رأى يرى بقاء الحكم فى قريش، وبالتالى بايعوا أبا بكر الذى كان يؤيد هذه الفكرة بقوله: «إن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لقـريش، لأنهم أوسط العرب نسباً وداراً»، لكن الأنصار من أهل المدينة اعترضوا على ذلك، وأشاروا إلى دورهم فى نصرة الرسول والمهاجرين،
 فيما ظهر رأى ثالث يدعو لاختيار أمير من الأنصار، وآخر من المهاجرين، لكن الاتجاه العام استقر على أبى بكر، استنادا إلى أن الرسول، حين أقعده المرض، اختار أبا بكر لإمامة جموع المسلمين، ومن هنا يبدو أن أول انتقال لسلطة الحكم فى الإسلام تم بشكل سلمى وديمقراطى، وإن كان قد كشف عن بذور التعدد فى الرأى، وبروز تحديات الدولة المدنية، إلى جوار مفاهيم القداسة الدينية وتنامى مشاعر التشيع لآل البيت، وطبعا لم تكن لفظة الشيعة فى عهد الرسول ذات دلالة سياسية، لكنها كانت مقصورة على الحب والولاء للرسول وآل بيته، وكانت الشيعة فى ذلك الوقت أربعة من الصحابة فقط هم: أبوذر الغفارى، وسلمان الفارسى، والمقداد بن الأسود الكندى، وعمار بن ياسر.
هذه الملاحظة تساعدنا على فهم الظروف التى نمت فيها بذور الصدام بين «الدولة المدنية»، التى تنتصر عادة للإجراءات السياسية واعتبارات السلطة لتمكين الحكم، وبين القيم العقائدية المثالية التى تنتصر عادة للقيم المثالية والمفاهيم الدينية والشعورية أيضا، وهذا هو الصدام الذى ظهر بوضوح أثناء خلافة عثمان ـ رضى الله عنه ـ الذى نحلله الآن كخلاف سياسى بين «حاكم وثائر».. الحاكم هو سيدنا عثمان، والثائر هو سيدنا أبوذر ـ رضى الله عنهما ـ واللافت للنظر فعلا أن المؤرخين أهملوا سيرة أبى ذر طوال فترتى خلافة عمر وأبى بكر، ثم أفردوا مساحات لخلافاته مع عثمان وولاته فى عدد من الأمصار خاصة الشام، ويحاول البعض تفسير ذلك بأن أبا ذر كان بعيدا عن مركز الخلافة فى المدينة المنورة، ويشير بعض المصادر إلى وجوده فى الشام. وفى أول إشارة تاريخية عن مكان إقامته يروى البلاذرى أن عثمان سأل يوما فى مجلسه: هل يجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟
فرد كعب الأحبار: لا بأس بذلك .
فقال أبوذر معنفاً: يا بن اليهوديين، أتعلمنا ديننا؟
وهنا قال له عثمان: «ما أكثر أذاك لى، ولأصحابى! الحق بمكتبك».. ويوضح البلاذرى أن «مكتب أبى ذر كان بالشام، وأنه كان يأتى للحج، ويسأل عثمان الإذن له فى مجاورة قبر الرسول، فيأذن له فى ذلك..».
وفى الوقت الذى يستخدم فيه المؤرخون الشيعة هذه الواقعة كدليل على نفى أبى ذر للشام، يستخدمها البلاذرى للتأكيد على أن هذه النقاشات الكلامية الحادة مع الخليفة لم تمنع عثمان من استخدامه فى مهام للدولة، لكنها عادة كانت بعيدا عن مركز الحكم، لكن محامى الفقراء كان يحمل رأيه الجرىء وأفكاره الثورية، ودعوته للتشيع، وينشرها فى أى مكان يحل به، ما أدى إلى صدامات عديدة مع ولاة عثمان وأبرزهم معاوية ا..

الثورة فى الإسلام : أول احتجاج .. أشعله إصرار الخليفة على خروج الجيش (1))


أجمعت الكتابات الرشيدة فى الشرق والغرب على أن رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، هو أبرز قائد ثورى فى التاريخ الإنسانى، لذلك وضعه الكاتب الأمريكى مايكل هارت فى مقدمة أعظم مائة شخصية فى العالم، فقد نجح اليتيم الفقير محمد بن عبدالله فى تأسيس دولة عظيمة لم تغير خريطة العالم فقط، ولكنها غيرت روحه ومفاهيمه، ورغم الذبول الحضارى الذى أصاب هذه الدولة بعد قرون طويلة من وفاة النبى إلا أن أمة الإسلام لاتزال قائمة، ويصنفها المفكر الأمريكى صمويل هانتنجتون فى مقدمة الحضارات التى يحسب لها الغرب كل الحساب.
وبعد وفاة الرسول تمت البيعة للصديق أبى بكر، رضى الله عنه، وفى بداية ولايته قدم مفهومين خطيرين نراهما الآن فى منتهى التناقض، لكن الصديق جمع بينهما بعبقرية نادرة: المفهوم الأول يعتبر درسا ثوريا يحدد العلاقة بين الحاكم والرعية، ويعطى للشعب حق محاسبة قائده، بل وعزله والخروج عليه، حيث قال فى خطبة البيعة: «أيها الناس، إنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى.. الصِّدقُ أمانةٌ، والكذبُ خيانةٌ، والضَّعيف فيكُم قوِىّ عندى حتى أُُريحَ عليه حقَّه، والقوىّ فيكم ضعيفٌ عندى حتَّى آخذ الحقَّ منه (...) أَطِيعُونِى مَا أطَعْتُ الله ورسوله، فإنْ عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم»، وقد كان رد الشعب واضحا أيضاً من خلال العبارة الشهيرة «والله إن أسأت لنقومك بسيفنا هذا» بكل ما تحتمله العبارة من دلالات تجسد أرقى المفاهيم الدستورية عن الشعب باعتباره مصدر السلطات.
 أما المفهوم الثانى الذى قدمه أبوبكر ففسره البعض على أنه «أول شعار سلفى فى الإسلام»، حيث قال فى خطبته وأثناء دفاعه عن تسيير جيش أسامة بن زيد «إنما أنا متبع ولست بمبتدع»، وكان عمر بن الخطاب من بين المنادين بعدم خروج الجيش لضرورات تأمين البلاد فى وقت عصيب، أو تغيير أسامة من القيادة لصغر سنه وعدم خبرته، فوثب أبوبكر وأخذ بلحية عمر، وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرنى أن أعزله، ووقف الصديق رضى الله عنه وأخذ يقول بصوت لا يعرف الخوف (كما ذكر ابن كثير): والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنّ جيش أسامة.
 هكذا يبدو لنا الآن أول خلاف سياسى فى مفهوم إدارة الدولة بين سلفية سيدنا أبى بكر، الذى التزم بحرفية ما أمر به الرسول العظيم، من دون النظر لفتنة الردة العظيمة وانقلاب الكثير من القبائل على الدولة الإسلامية الناشئة، وبين مفهوم عمر المدنى الذى يأخذ فى الاعتبار الآراء العقلانية التى طالب بها عدد من وجهاء القوم، حيث رأوا أن هناك خطرا يحدق بخليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين، وخشوا أن يتخطفهم المشركون بعد إنفاذ جيش أسامة إلى الشام،
لكن الجميع امتثلوا لرأى خليفة الرسول، ولم يحدث انشقاق واضح ربما لحداثة الناس بعهد النبوة، كما فسر بعض المؤرخين، وربما انتظارا لما ستسفر عنه أزمة الردة والتوقف عن دفع الخراج. ومهما تكن طبيعة المشكلة السياسية حينذاك فإن ولاية أبى بكر لم تستمر طويلا، فقد توفى وآلت البيعة للفاروق عمر الذى اهتم بالعدل الاجتماعى وشؤون الفقراء، وسعى لتطوير أحوال بيت المال، لكنه - حسب الكاتب المغتال فرج فودة - أهمل شؤون أمنه الخاص، وهو من بدهيات العمل السياسى فى كل عصر، حيث لم تحُل جهوده البارزة فى تحقيق العدل الاجتماعى والاهتمام بالرعية دون اغتياله بطريقة أدت إلى مفارقة مع مقولة «عدلت فأمنت فنمت ياعمر»، لكن الفاروق سأل عن هوية قاتله، وحمد الله أنه مجوسى ولم يكن مسلما، وهذا يعنى أن عمر بن الخطاب كان يدرك أهمية ألا يقتل على يد مسلم ثائر من رعيته، ربما لأن فى ذلك إشارة إلى أنه أخفق فى إرضاء الرعية. وكان معروفا أن الفاروق يبكى خشية أن يظلم أحدا من رعيته فيحاسبه الله أشد الحساب.
 وبعد وفاة عمر، رضى الله عنه، ذهبت البيعة لثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وفى ولايته جرت الأمور مجرى آخر، واستمرت محاولات تطوير الدولة على المستوى المدنى من حيث تنظيم بيت المال، وضرب عبارة «لا إله إلا الله» على الدينار البيزنطى، حيث لم تسك عملة إسلامية كاملة إلا بعد ذلك فى عهد الخليفة الأموى مروان بن عبدالملك، كما تطورت بعض مؤسسات الدولة التى وضع نواتها ابن الخطاب، لكن المتغير الأبرز فى خلافة عمر كان التوسع فى منح امتيازات لكبار التجار ورجال الدولة من الأمويين، وظهور استثناءات فى تحصيل (الضرائب)، وهو ما أثار الأسئلة والاحتجاجات التى بدأت تتحول إلى فتنة عظيمة، وكان الصحابى الجليل جندب بن جنادة، المعروف باسم أبى ذر الغفارى، فى مقدمة المحتجين، حتى اعتبره المؤرخون أول ثائر ومتظاهر فى الإسلام

»حقيقة عبدالله بن سبأ.. خط فاصل بين «ثورة الصحابة» و«مؤامرة اليهود


عبدالله بن سبأ، ليس مجرد شخص، لكنه أسطورة متكاملة الأركان، ينسب إليه البعض التخطيط والمشاركة فى مؤامرة قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه، والتخطيط للفتنة الكبرى وما تلاها من فتن شطرت دولة الإسلام، حيث لعب دورا كبيرا فى إشعال «موقعة الجمل» بعد أن نجح فى إفشال الصلح بين الإمام على كرم الله وجهه من جانب، والسيدة عائشة والصحابيين الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله (رضوان الله على الجميع) من جانب آخر، كما أسس مذهب السبئية، وهو من أكثر المذاهب تطرفا وتشيعا، وقيل إنه لم يكتف بالدعوة لأحقية على فى الخلافة حسب مقولته المبكرة «لكل نبى وصى، وعلى هو وصى الأمة»، بل نادى بألوهية الإمام على (نستغفر الله)، وذكرت بعض مصادر التاريخ وتراجم الرواة وكتاب السير أن الإمام نفاه إلى المدائن، وأحرق بعض أشياعه الذين اعتنقوا هذه الأفكار الضالة لكى يحاصر الفتنة، وفى معرض أحاديثها عن الدور التخريبى لابن سبأ ذكرت تلك المصادر أن ابن سبأ كان يهوديا من أهل اليمن ادعى الإسلام نفاقاً، وأظهر تشيعا شديدا لآل البيت، لكنه كان يضمر فى نفسه حقدا على الإسلام، فاتخذ من حب الإمام على ستارا لكى ينشر الفتنة والبغضاء بين المسلمين، وبدأ يشهر العداء للسيدة عائشة والخلفاء السابقين على الإمام.
فى المقابل نفت مصادر أخرى وجود هذه الشخصية من الأساس، واستنكر عدد من الكتاب القدامى والمحدثين إمكانية أن يكون لشخص واحد مثل هذا التأثير الكبير على مجرى تاريخ أمة يافعة فتحت ربوع العالم فى ذلك الزمان، وهكذا بدأت فتنة جديدة تدب بين المؤرخين بشأن ابن سبأ، وهل هو شخصية حقيقية أم وهمية، فالمتحمسون لوجوده أكدوا أنه يهودى أسلم فى زمن عثمان، وأخذ يجوب بلاد المسلمين منذ عام 32 هـ، فانتقل من الحجاز، إلى البصرة، ثم الكوفة، وبعدها الشام حتى استقر فى مصر سنة 34 هـ، وخلال إقامته فى الفسطاط جمع حوله أنصاراً ووضع عقيدتى الوصية والرجعة، وحافظ على علاقاته فى العراق، حتى نجح فى نشر السخط، ونظم المسيرات التى أدت فى النهاية إلى مقتل عثمان، وذكر مؤرخون أنه شارك بنفسه فى عملية القتل حيث دخل على الخليفة وخنقه بيديه حتى مالت رأسه، ولما خرج دخل أتباعه ليجهزوا على عثمان، وأشار إليه مؤرخون آخرون بلقب «الموت الأسود»، و«ابن السوداء»، وهى ألقاب ستفيدنا بعد ذلك فى مناقشة قضية وجوده كشخصية حقيقية، حيث أنكر البعض ذلك واعتبروه شخصية وهمية اخترعها البعض ضمن «نظرية المؤامرة» التى تلقى بأسباب كل أزمة على عوامل خارجية، فحتى سنة 1947، كانت الخلافات بشأن شخصية ابن سبأ محدودة وبسيطة، وانحصرت فى كونه من يهود صنعاء أم حمير أم همدان؟، أم من أهل الحيرة فى العراق؟، وبرر البعض هذه الخلافات بأنها نتيجة طبيعية لتنقلات القبائل، فقد يكون أصله من اليمن ثم انتقل مع «والده» إلى العراق.
ولكن من هو والده؟!.. لم نعثر على إجابة تاريخية، لكن وجدنا تبريرات من نوع «إنه ربما بعد أن أسلم خجل من ذكر اسم والده اليهودى»، أما أمه فكانت حبشية سوداء، لذلك سمى بـ«ابن السوداء»، وربما كانت قصة تسميته وغياب نسبه سببا أساسيا جعل الدكتور طه حسين ينسف وجود شخصية ابن سبأ تماما فى التاريخ الإسلامى، وذلك فى كتابه المثير للجدل «الفتنة الكبرى»، وتأثر العميد فى ذلك بالأبحاث التاريخية لأساتذته من المستشرقين مثل فلهاوزن وكايتانى، والتى ذهبت إلى أن هذه الشخصية وهمية ومختلقة، وأن «ابن السوداء» هو فى الواقع الصحابى عمار بن ياسر (الذى كان بعض المتأثرين بالجاهلية ينادونه بهذا اللقب فى إطار معايرته بسواد أمه سمية)، وأكدت هذه الدراسات تطابق بعض المواقف بين ابن سبأ، وابن ياسر، خاصة مواقفه من طلحة والزبير وعائشة وقبلها من عثمان، واستند طه حسين فى رأيه على أن المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة بن سبأ ولم يذكروا عنها شيئا، كما أن المصدر الوحيد عنه هو «سيف بن عمر» ووصفه بأنه «كاذب ووضاع» (أى يضع الروايات من عنده)، وأضاف العميد أن الأمور التى أسندت إلى ابن سبأ تستلزم معجزات خارقة لا يمكن لفرد واحد أن يقوم بها حتى لو كان المسلمون حينذاك فى منتهى البلاهة والسخف.
فى المقابل هاجم المحقق الإسلامى البارز محمود شاكر استنتاجات طه حسين، وقال إنه يسعى لتبرير الدور اليهودى فى التآمر ضد الإسلام، ويريد تشويه كل ما هو عربى، فهو يردد ويؤكد أن «الفتنة عربية» وأنها نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد «العامة العربية» لهؤلاء الأغنياء، وينكر أمر ابن سبأ ودوره فى تنظيم الجماعات الخفية، التى تتستر بالكيد، ثم يقر بأدوار مثل هذه، فى مواضع أخرى من كتابه، ويدافع شاكر عن «سيف بن عمر» مؤكدا أنه من كبار المؤرخين وشيخ شيوخ الطبرى، والبلاذرى، كما أنه مات فى زمن الرشيد، قبل سنة 190 هـ، فلا يقال عنه ولا عن الطبرى إنهما من «الرواة المتأخرين» كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.

موقعة الجمل


لكن لماذا وكيف حدثت هذه المأساة؟ وكيف اصطرعت سيوف الصحابة فى مواجهة بعضهم البعض؟
تقول الروايات التاريخية إن الإمام على بن أبى طالب لم يكن قادراً فور توليه الخلافة على تنفيذ القصاص فى قتلة عثمان مع علمه بأعيانهم، وذلك لأنهم سيطروا على مقاليد الأمور فى المدينة النبوية، وشكلوا قوة مسلحة من الصعب القضاء عليها، وحتى لا تتسع دوائر الفتنة فضل الانتظار لفرصة لا يؤدى فيها القصاص إلى المزيد من إراقة دم المسلمين، وفى المقابل تصاعدت موجات الرفض لسياسة التباطؤ، ولما مضت أربعة أشهر على بيعة «علىّ» دون أن ينفذ القصاص قاد بعض الصحابة وعلى رأسهم طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام مسيرة إلى مكة، حيث التقوا أم المؤمنين عائشة بعد أدائها فريضة الحج، واتفق رأيهم على الخروج إلى البصرة، ليس بغرض القتال، ولكن للمطالبة بالقبض على قتلة عثمان، والقصاص منهم، وقبل انطلاقهم أرسلوا إلى والى البصرة عثمان بن حنيف يخطرونه بذلك، ولما استفسر «ابن حنيف» عن نوايا المسيرة، قالت السيدة عائشة قولتها الشهيرة: إن نريد إلاَّ الإصلاح.
فوقف «ابن حنيف» يستشير الناسَ فى هذا الأمر، واقترح رجل يُسمَّى الأسود بن سَرِيع التضامن مع الجيش القادم من مكة للقصاص من قتلة عثمان، طالما لا يوجد أحد منهم فى البصرة، فرشقه مجهولون بالحجارة اعتراضاً على رأيه، فأدرك ابن حنيف أن لقتلة عثمان أعواناً فى البصرة، وتذكر رأى الخليفة الذى حذر من تجدد إيقاظ الفتنة فى حال التعجل بالضغوط فى هذه القضية، ولهذا رفض دخول جيش المحتجين إلى البصرة، فأبلغوه أنهم سيدخلون بالقوَّة، ووقف طلحة يخطب فى جنود ابن حنيف على مداخل البصرة ويذكَّرهم بدم عثمان، ثم خطب الزبير بن العوام بعده، لكن الجنود لم يتزحزحوا، فقامت السيدة عائشة وخطبت فيهم خطبة مؤثرة رقَّقت قلوبهم لدم عثمان، فانقسم جيش ابن حنيف، وانضم نصفه لجانب السيدة عائشة، وشعر الوالى بخطر الفتنة فطلب مهلة لاستشارة الخليفة فى أمر السماح لهم بدخول البصرة، وتوجس قتلة عثمان من أمر الصلح، وخرج حكيم بن جبلة من مكمنه، وكان أحد قتلة عثمان المطلوبين للقصاص، وبدأ القتال مع جيش السيدة عائشة، وانتهت المعركة بمقتله، وأُسر ابن حنيف، وكانت المعلومات عن مسيرة طلحة والزبير قد وصلت للخليفة فخرج من المدينة قاصداً البصرة ومعه قوة صغيرة أقل من ألف مقاتل، وعند منطقة الربذة لقى عبدالله بن سلام فأخذ بعنان فرسه وقال له: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً»، وكتب على يخاطب أهل الكوفة: «.. كونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، وأيدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا»، ثم وقف يخطب فى قواته بالربذة قائلا: «إن الله أعزنا بالإسلام ورفعنا به، وجعلنا به إخوانا (...) حتى أصيب هذا الرجل (يقصد مقتل عثمان) بأيدى قوم نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا وإن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن»، وحذر من تفرق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ثم اختتم حديثه قائلا: «فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن حكما وإماما».
وبعدها سأله ابن أبى رفاعة: يا أمير المؤمنين، أى شىءٍ تريد، وأين تذهب بنا؟
فقال له: أريد وأنوى الإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم بعذرهم، ونعطهم الحقَّ ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم ما تركونا.
قال: فإن لم يتركونا؟
قال: امتنعنا منهم.. أى بالسيف.
قال: نعم إذًا.. وخرج بقومه مع الجيش.
وعند منطقة ذى قار جنوب العراق جاء عثمان بن حنيف بعد إطلاقه من الأسر، وأخبر الخليفة بما حدث، فأرسل ابنه الحسن، والقعقاع بن عمرو، وعمار بن ياسر رضى الله عنهم جميعًا إلى الكوفة لحشد الجنود بغرض تمكين طلبه للصلح، وأقام علىّ بذى قار ينتظر الحشود، ويتلمس الردود لوأد الفتنة، ويقول ابن كثير إن الإمام أقام الليل يصلى ويدعو الله لإزاحة الغمة وبيان الرؤية للصحابيين المتلازمين طلحة والزبير، فكان يقول: اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما فى أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا (فى أمرهما هذا)، فماذا فعل طلحة والزبير، وكيف سارت مسارات الفتنة؟ا

دولة الشيعة الإسماعيلية بمصر


الإمام الإسماعيلى «أغا خان» المدفون بأسوان منذ سنة 1957، فى ذلك المقام البديع الذى ظل حتى وقت قريب مزاراً سياحياً، لماذا جاء ليُدفن فى مصر؟ وما دلالة هذا اللقب: أغاخان؟ وكيف سميت أول دولة شيعية، فى مصر، بالدولة الفاطمية؟.. سوف نسعى فيما يلى للإجابة عن الأسئلة، مع الالتزام بقدر المستطاع بتبسيط الموضوع، وبالابتعاد عن الأسلوب، الذى يشكو كثيرٌ من القراء والأصدقاء من صعوبته، خصوصاً أننى وعدت صديقى «على منتصر» أن أُتِمَّ مقالات هذه السباعية، بأيسر لفظ وأقرب معنى. وعلى ذلك أقول:
كان ياما كان، شيخٌ جليل يتفق على مكانته الدينية والروحية معظم المسلمين، اسمه الإمام «جعفر الصادق»، الذى هو من (أسباط) النبى. الأسباط هم أبناء البنت، وأبناء الابن هم الأحفاد. وقد اعتاد المسلمون تسمية أسباط النبى من السيدة «فاطمة» وزوجها الإمام «على بن أبى طالب» بالأشراف، وبآل البيت. وكان جعفر الصادق هو إمام الجيل الخامس من أشراف بيت النبوة، لأنه جعفر الصادق (5) ابن محمد الباقر (4) ابن على زين العابدين (3) ابن الإمام الحسين (2) ابن الإمام على بن أبى طالب (1).. وقد أعلن جعفر الصادق أن الإمام من بعده، سوف يكون ابنه الأكبر «إسماعيل» ولكن هذا الابن، فيما يقال، كان يشرب الخمر ولا يلتزم بالسمات التى يستمسك بها أئمة آل البيت. وقد توفى فى حياة أبيه، فصارت هناك مشكلة فى (توريث) الإمامة، لأن الشيعة فى ذلك الوقت كانوا يتأولون الآية القرآنية «وجعلها كلمةً باقيةً فى عَقِبه لعلهم يرجعون» بحيث يصير المفهوم منها، أن الإمامة وراثية فى الأعقاب، أى فى الابن من بعد أبيه. وهم يعتقدون أيضاً، أن الإمام معصومٌ من الخطأ، وبالتالى فإذا نصَّ على إمامة خليفته لا يجوز الرجوع عن هذا النص.. ولكن (إسماعيل)، المنصوص عليه، مات، ولم يكن أبوه راضياً عنه حتى إنه احتفل بموته، وفرح بوفاته، وعرض جثته على شهود، كتبوا محضراً بالواقعة، وأرسلوه إلى الخليفة العباسى الذى فرح بدوره بوفاة «إسماعيل»، على اعتبار أن أئمة الشيعة كانوا يسعون إلى السلطة السياسية، وكان أبناء عمومتهم (العباسيون) يبالغون فى اضطهادهم، مثلما كان يفعل (الأمويون) من قبلهم.
طيب، ما العمل وقد مات الإمام المنصوص عليه، بصرف النظر عن مناسبته أصلاً للإمامة؟ الذى حدث أن والده «جعفر الصادق» نصَّ على إمامة ابنه الأصغر (موسى الكاظم)، فارتضى بذلك جماعة من الشيعة، هم الذين سوف يُعرفون لاحقاً باسم «الإثنى عشرية» ولم يقبل ذلك جماعةٌ أخرى، قالت إن الأحق بالإمامة بعد إسماعيل (المتوفى) هو ابنه: محمد بن إسماعيل.. والذى يعد عندهم الإمام السابع، ولذلك عُرفوا باسم (السبعية) وباسم (الإسماعيلية)، وقد زعم جماعة منهم، أن موت «إسماعيل» كان مجرد مسرحية أراد بها «الإمام جعفر الصادق» أن يخفى ولده عن عيون الخلافة العباسية، ويحفظه من بطشهم.. وزعم جماعة آخرون منهم، أنهم شاهدوا الإمام «إسماعيل» بعد مسرحية موته، يعيش فى البصرة وفى بعض نواحى فارس (= إيران).
ونظراً للظروف الصعبة التى كان يمر بها التشيع فى تلك الفترة، وفى فترات أخرى كثيرة، فقد اتخذت الدعوة الإسماعيلية طابع السرية، وقام الدعاة فى هذا الوقت المسمى (طور الدعوة السرية) بالكثير من الجهود التى سعت لإقامة دولة بديلة، على رأسها الإمام المستور (= المختفى).. وكان من هؤلاء الدعاة السريين، الجماعة التى تعرف باسم (القرامطة)، وهى التى تحدثنا عنها فى مقالة الأربعاء الماضى، التى لم يهتم بها كثيرون لانشغال الناس فى بَرِّ مصر بمحاكمة الرئيس السابق (العلنية) فى اليوم ذاته.
المهم، أن الجماعة الإسماعيلية التى انشقت عن بقية الشيعة، ظلت تحاول إقامة دولة لها بالمعنى السياسى، مدعومة بجهود (الدعاة) حتى استطاعت تأسيس دولة «جنينية» فى ساحل إفريقية (=تونس) وما لبثت أن صارت دولة قوية فى مصر، سُميت الدولة الفاطمية.. لماذا الفاطمية؟
كان الأئمة الحاكمون فى تونس، منذ ابتداء دولتهم على يد «عبيد الله المهدى» يسمون أنفسهم الفاطميين، كأنهم بذلك يذكِّرون المسلمين بأصلهم الشريف، ويؤكِّدون انتسابهم إلى السيدة فاطمة التى تحظى بتقدير أهل الإسلام على اختلافهم. ولكن أعداء الفاطميين، كانوا يسمونهم (العبيديين) نسبة إلى عُبيدالله المهدى، ويؤكِّدون أنهم ليسوا من آل البيت أصلاً، ويشكِّكون فى نسب عبيدالله.. ومن هنا نفهم خلفيات الواقعة المشهورة التى جرت بمصر سنة 363 هجرية، حين جاء «المعز لدين الله» ليحكم النواحى المصرية، فذهب أعيان المصريين، ومعهم نقيب الأشراف بمصر، وسألوا «المعز» عن نسبه وحسبه، فنثر عليهم دنانير ذهبية وقال: هذا نسبى! ثم سحب نصف سيفه من الغمد وهو يقول: وهذا حسبى. وهى الطريقة ذاتها التى يستعملها اليوم المجلس العسكرى الذى يدير مصر، واستعملها من قبل الجميع «معاوية بن أبى سفيان» فيما يُعرف بشعرة معاوية: لو كان بينى وبين الناس شعرة ما تركتها تنقطع، فإذا شدُّوا أرخيت، وإن أرخوا شددتُ.. (هذه ليست دعوة لمواصلة الاعتصام بميدان التحرير حتى تتحقق مطالب ثورة يناير، فقد تهتكت الاعتصامات وأنهكت البلاد).
المهم، أن «المعز لدين الله» ومن بعده ابنه «العزيز بالله» كانا من فضلاء الرجال، وسارا فى مصر بسيرة حسنة، وحفظا البلاد من محاولات القرامطة الاستيلاء على الحكم.. لماذا تسعى الجماعات الدينية دوماً إلى امتلاك كرسى الحكم والسيطرة على السلطة السياسية الدنيوية، مع أن الحديث الشريف يقول: الدنيا جيفة وطلابها كلاب؟ وما معنى الدعوة التى أطلقها «الصوفية» للتظاهر يوم الجمعة، لإثبات أن عددهم اليوم بمصر هو (خمسة عشر مليوناً!) بينما التصوف الذى أعرفه، لا يعرف اللعب السياسى؟
ما علينا، نعود إلى الزمن الفاطمى (= الشيعى الإسماعيلى) الذى اضطرب فى أواخر القرن الرابع الهجرى، وبدايات القرن الخامس، مع التفانين العجيبة والحكمة الممزوجة بالهوس والجنان الرسمى (الجنون الصريح) الذى عرفناه فى فترة حكم «الحاكم بأمر الله» الذى كاد فى نهاياته يودى بالبلاد والعباد فى موارد التهلكة، لولا تداركت الأمر أخت الحاكم بأمر الله (سِتّ الملك) وقامت بعملية إنقاذ على طريقة توم كروز فى أفلامه «مهمة مستحيلة» لكنها نجحت، وأرست الأمور بيد ابن أخيها الذى كان قد انتزعته من أبيه (الحاكم بأمر الله) وهو طفل صغير، وما لبثت أن جعلته حاكماً لمصر بعد اختفاء والده سنة 411 هجرية، وأعطته اسم (الظاهر لإعزاز دين الله) وكان عمره آنذاك ستة عشر عاماً.
وفى أواخر زمن «الحاكم» ظهرت بمصر بدع كثيرة ومعتقدات عجيبة، منها الجماعة التى سوف تُعرف لاحقاً باسم (الحشاشين) والجماعة التى تُعرف اليوم باسم (الدروز) وكلاهما مصرى المنشأ، وكلاهما متشدِّد.. ولسوف نتوقف عندهما فى المقالتين القادمتين.
وقد استمرت الدولة الشيعية الإسماعيلية (الفاطمية) فى حكم مصر من سنة 358 هجرية حتى أسقطها سنة 567 هـ صلاح الدين الأيوبى، الذى تنمَّس على الخلافة الفاطمية وصار وزيراً لهم، ثم انقلب عليهم وعلى «نور الدين محمود» وأسس الدولة المعروفة فى تاريخ مصر والشام بالدولة الأيوبية، التى ابتدأها بجريمة ضد الإنسانية حين عزل الرجال (الفاطميين) عن النساء (الفاطميات) ومنع تزاوجهم مع بعضهم، أو مع الآخرين، حتى انقرضوا بالوفاة ولم يبق منهم أحد. وبالطبع، فالمقررات الدراسية عندنا لا تذكر هذا الأمر إطلاقاً، وإنما تحتفى بصلاح الدين الأيوبى لأنه حَرَّر القدس من أيدى الصليبيين سنة 583 هـ هجرية، ولا تقول أن أخاه (العادل) عاد وسلَّمها لهم سنة 628 هجرية.
■ ■ ■
وبعد انطواء صفحة الزمن الشيعى الإسماعيلى (الفاطمى) من تاريخ مصر، بقيت ببلادنا آثار كثيرة تدل عليه، وبقيت منه فى التراث العربى/ الإسلامى عموماً آثار أخرى. ومن أشهر ما نعرفه اليوم من بقايا ذاك الزمن الجامعُ الأزهر الذى ما لبث أن صار منبراً لمذهب السنة، مع أنه كان فى الأصل منبراً للدعوة الشيعية الإسماعيلية. ومن ذلك أيضاً، ما نقوم به اليوم من احتفالات دينية واحتفاء بفانوس رمضان (الذى لا يعرفه إلا المصريون) وحفاوة كبيرة بآل البيت المدفونين بمصر، وعلى رأسهم الإمام الحسين الذى يشكك كثير من المؤرخين فى أنه مدفون أصلاً بمصر، لكن هذه الشكوك لا تعنى أى شىء بالنسبة للاعتقاد العام السائد بمصر.
ومن الآثار التى بقيت من ذاك الزمان، فى التراث العربى/ الإسلامى، عموماً، بل فى التراث الإنسانى؛ الموسوعة البديعة التى تعرف بعنوان (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا) وهى كتاب ضخم يقع فى أربعة مجلدات، ربما نعود إليه فى «سباعية» خاصة.
لكن السلسلة الإسماعيلية استمرت فى أصلاب (النـزارية) الذين صاروا هم «الأئمة» واحتفظوا فى إيران وقلب آسيا بمكانة روحية خاصة، وبالاسم ذاته «الإسماعيلية» ثم توارثوا هذه الزعامة الروحية جيلاً بعد جيل، حتى اشتهر أمرهم من جديد (فى القرن التاسع عشر الميلادى) مع إمامهم المولود بإيران سنة 1219 هجرية، واسمه: حسن على بن خليل على، ولقبه: أغا خان الأول.. وهو لقب ملكى تشريفى، منحه له شاه إيران «فتح على القاجارى» الذى تزوج أغا خان، أخته الأميرة «سرر جهان» ولكن الخلاف سرعان ما دبَّ فى البلاد بسبب ازدياد الزعامة الدينية لأغا خان، والتفاف الأتباع من حوله، فحظر عليه الشاه الإيرانى العمل بالسياسة، خوفاً على العرش، ولكن الصدامات حدثت بين أتباع هذا وذاك، وانتهى الأمر بأغا خان الأول إلى النـزوح إلى الهند. وفى أيامه هاج النصيرية (العلويون) فى سوريا، على الإسماعيلية الموجودين هناك، وأخرجوهم من ديارهم. وهاجم السُّنة قلاع الإسماعيلية فى لبنان، وأعدموا كبارهم شنقاً. فتقلص الوجود الإسماعيلى فى البلاد العربية وصار مختصاً بالهند.
ثم تولى الزعامة الروحية «أغا خان الثانى» الذى كثر أتباعه وصاروا أغنياء بسبب العمل فى التجارة، واستطاعوا مساعدة الإسماعيلية فى سوريا بالتوسط من أجلهم لدى السلطان العثمانى الذى سمح للإسماعيلية بالسكنى فى سوريا، وأعفاهم من الجندية.. وفى كراتشى الباكستانية سنة 1877 ولد أغا خان الثالث، واسمه الأصلى: سلطان محمد شاه على الحسينى. وفى زمانه انتعشت الجماعة وازدادت ثراءً والتفافاً حول إمامهم الذى صار يلعب دوراً سياسياً، ويجوب العالم، ويتزوج بملكة جمال فرنسا (تزوج أربع مرات) وقد احتفل أتباعه عام 1935 ببلوغه السنة الخمسين من إمامته لهم بأن تبرعوا له بوزنه ذهباً (اليوبيل الذهبى) وبعدها بأحد عشر عاماً (سنة 1946) تبرعوا له بمقدار وزنه من الماس (اليوبيل الماسى) وفى سنة 1954 وزنوه بالبلاتين وأهدوا الوزن إليه.. ولا نعرف ما الذى كانوا سيفعلونه، لو أتم إمامهم من عمره مائة عام؟
توفى سلطان محمد شاه (أغا خان الثالث) سنة 1957 بسويسرا، ونقل جثمانه إلى أسوان ليدفن فيه، حسب وصيته التى يقول الطيبون من المصريين إنه اختارها مدفناً لرفاته، لأنه كان قد جاء إليها للاستشفاء، ونصحه المعالجون بأن يدفن نفسه فى الرمال، فبرأ وأحب المكان وبنى فيه مقبرته.. بينما الرأى عندى، أن مصر كانت تمثل عنده الزمن الذهبى للجماعة الإسماعيلية، التى عاشت أزهى عصورها فى زمن أجداده المعروفين باسم (الفاطميين) الذين فتحوا بلاد النوبة فصارت فى القرن الرابع الهجرى، فقط، أرضاً إسلامية بعدما استعصت طويلاً على الفاتحين بسبب تمسك النوبيين بخصوصيتهم وديانتهم التى كانت المسيحية.. العجيب أن أهل النوبة صاروا من بعد ذلك، كلهم، مسلمين! حتى إنه لا يوجد مسيحى واحد نوبى، سواء من جماعة الفجكى والمتوكى (النوبة المصريين) أو من جماعة المحسن (نوبة السودان) وكأن المسيحية لم تكن يوماً ديانة لجميع أجدادهم، لفترة امتدت لمئات السنين.
وتولَّى من بعد أغا خان الثالث، ابنه (كريم) الذى صار لقبه «أغا خان الرابع» وهو من أشهر الشخصيات فى العالم منذ توليه (الإمامة الإسماعيلية) ومن أغناهم وأكثرهم نشاطاً وأناقة وحباً للحياة الراقية.. وأعتقد من جانبى، وقد أكون مخطئاً، أن الفترة القادمة من حياة مصر سوف تشهد مزيداً من الإقبال (الإسماعيلى) الذى بدأت شواهده تلوح فى آخر جمعة اعتصام فى ميدان التحرير (قبل محاكمة مبارك) حيث نُصبت فى الميدان عدة منصات للثوار المصريين، كان من بينها منصَّة للشيعة.
الإسلام هو الحل، الديمقراطية هى الحلَّ، المجلس العسكرى هو الحلّ، الحرية هى الحلّ، الانتخابات هى الحلّ، السلفية هى الحلّ، الكنيسة هى الحلّ، الأزهر هو الحلّ، العلمانية هى الحلّ، الليبرالية هى الحلّ، المطالب الفئوية هى الحلّ، الأرانب والملوخية هى الحلّ.. اللهم ارحمنى من هذه الحلول جميعها، حتى نحدِّد أولاً ما هى المشكلة التى نبحث لها عن حلّ.