عبدالله بن سبأ، ليس مجرد شخص، لكنه أسطورة متكاملة الأركان، ينسب إليه البعض التخطيط والمشاركة فى مؤامرة قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه، والتخطيط للفتنة الكبرى وما تلاها من فتن شطرت دولة الإسلام، حيث لعب دورا كبيرا فى إشعال «موقعة الجمل» بعد أن نجح فى إفشال الصلح بين الإمام على كرم الله وجهه من جانب، والسيدة عائشة والصحابيين الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله (رضوان الله على الجميع) من جانب آخر، كما أسس مذهب السبئية، وهو من أكثر المذاهب تطرفا وتشيعا، وقيل إنه لم يكتف بالدعوة لأحقية على فى الخلافة حسب مقولته المبكرة «لكل نبى وصى، وعلى هو وصى الأمة»، بل نادى بألوهية الإمام على (نستغفر الله)، وذكرت بعض مصادر التاريخ وتراجم الرواة وكتاب السير أن الإمام نفاه إلى المدائن، وأحرق بعض أشياعه الذين اعتنقوا هذه الأفكار الضالة لكى يحاصر الفتنة، وفى معرض أحاديثها عن الدور التخريبى لابن سبأ ذكرت تلك المصادر أن ابن سبأ كان يهوديا من أهل اليمن ادعى الإسلام نفاقاً، وأظهر تشيعا شديدا لآل البيت، لكنه كان يضمر فى نفسه حقدا على الإسلام، فاتخذ من حب الإمام على ستارا لكى ينشر الفتنة والبغضاء بين المسلمين، وبدأ يشهر العداء للسيدة عائشة والخلفاء السابقين على الإمام.
فى المقابل نفت مصادر أخرى وجود هذه الشخصية من الأساس، واستنكر عدد من الكتاب القدامى والمحدثين إمكانية أن يكون لشخص واحد مثل هذا التأثير الكبير على مجرى تاريخ أمة يافعة فتحت ربوع العالم فى ذلك الزمان، وهكذا بدأت فتنة جديدة تدب بين المؤرخين بشأن ابن سبأ، وهل هو شخصية حقيقية أم وهمية، فالمتحمسون لوجوده أكدوا أنه يهودى أسلم فى زمن عثمان، وأخذ يجوب بلاد المسلمين منذ عام 32 هـ، فانتقل من الحجاز، إلى البصرة، ثم الكوفة، وبعدها الشام حتى استقر فى مصر سنة 34 هـ، وخلال إقامته فى الفسطاط جمع حوله أنصاراً ووضع عقيدتى الوصية والرجعة، وحافظ على علاقاته فى العراق، حتى نجح فى نشر السخط، ونظم المسيرات التى أدت فى النهاية إلى مقتل عثمان، وذكر مؤرخون أنه شارك بنفسه فى عملية القتل حيث دخل على الخليفة وخنقه بيديه حتى مالت رأسه، ولما خرج دخل أتباعه ليجهزوا على عثمان، وأشار إليه مؤرخون آخرون بلقب «الموت الأسود»، و«ابن السوداء»، وهى ألقاب ستفيدنا بعد ذلك فى مناقشة قضية وجوده كشخصية حقيقية، حيث أنكر البعض ذلك واعتبروه شخصية وهمية اخترعها البعض ضمن «نظرية المؤامرة» التى تلقى بأسباب كل أزمة على عوامل خارجية، فحتى سنة 1947، كانت الخلافات بشأن شخصية ابن سبأ محدودة وبسيطة، وانحصرت فى كونه من يهود صنعاء أم حمير أم همدان؟، أم من أهل الحيرة فى العراق؟، وبرر البعض هذه الخلافات بأنها نتيجة طبيعية لتنقلات القبائل، فقد يكون أصله من اليمن ثم انتقل مع «والده» إلى العراق.
ولكن من هو والده؟!.. لم نعثر على إجابة تاريخية، لكن وجدنا تبريرات من نوع «إنه ربما بعد أن أسلم خجل من ذكر اسم والده اليهودى»، أما أمه فكانت حبشية سوداء، لذلك سمى بـ«ابن السوداء»، وربما كانت قصة تسميته وغياب نسبه سببا أساسيا جعل الدكتور طه حسين ينسف وجود شخصية ابن سبأ تماما فى التاريخ الإسلامى، وذلك فى كتابه المثير للجدل «الفتنة الكبرى»، وتأثر العميد فى ذلك بالأبحاث التاريخية لأساتذته من المستشرقين مثل فلهاوزن وكايتانى، والتى ذهبت إلى أن هذه الشخصية وهمية ومختلقة، وأن «ابن السوداء» هو فى الواقع الصحابى عمار بن ياسر (الذى كان بعض المتأثرين بالجاهلية ينادونه بهذا اللقب فى إطار معايرته بسواد أمه سمية)، وأكدت هذه الدراسات تطابق بعض المواقف بين ابن سبأ، وابن ياسر، خاصة مواقفه من طلحة والزبير وعائشة وقبلها من عثمان، واستند طه حسين فى رأيه على أن المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة بن سبأ ولم يذكروا عنها شيئا، كما أن المصدر الوحيد عنه هو «سيف بن عمر» ووصفه بأنه «كاذب ووضاع» (أى يضع الروايات من عنده)، وأضاف العميد أن الأمور التى أسندت إلى ابن سبأ تستلزم معجزات خارقة لا يمكن لفرد واحد أن يقوم بها حتى لو كان المسلمون حينذاك فى منتهى البلاهة والسخف.
فى المقابل هاجم المحقق الإسلامى البارز محمود شاكر استنتاجات طه حسين، وقال إنه يسعى لتبرير الدور اليهودى فى التآمر ضد الإسلام، ويريد تشويه كل ما هو عربى، فهو يردد ويؤكد أن «الفتنة عربية» وأنها نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد «العامة العربية» لهؤلاء الأغنياء، وينكر أمر ابن سبأ ودوره فى تنظيم الجماعات الخفية، التى تتستر بالكيد، ثم يقر بأدوار مثل هذه، فى مواضع أخرى من كتابه، ويدافع شاكر عن «سيف بن عمر» مؤكدا أنه من كبار المؤرخين وشيخ شيوخ الطبرى، والبلاذرى، كما أنه مات فى زمن الرشيد، قبل سنة 190 هـ، فلا يقال عنه ولا عن الطبرى إنهما من «الرواة المتأخرين» كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire