«عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته!.. كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس»
اختفى أبوذر الغفارى من كتب التاريخ وعاصمة الدولة الاسلامية، طوال خلافة عمر بن الخطاب، ولما بويع عثمان بن عفان ظهرت إشارات المؤرخين عن إقامة الغفارى فى الشام، وتواترت أخبار عن معارضته لسياسة الخليفة المالية وطريقة تعيينه للولاة، وتركزت هذه الآراء الحادة ضد معاوية، الذى انتقد الغفارى منه البذخ الذى يعيش فيه، واتهمه بتبذير أموال المسلمين، فقد بنى قصر «الخضراء» وأنفق عليه الكثير، فقال له أبوذر: يا معاوية، إن كان هذا من بيت مال المسلمين فهى الخيانة، وإن كان من مالك فهو الإسراف، وسعى معاوية لاحتوائه مرة بالترغيب ومرات بالترهيب، لكنه واصل انتقاداته، حتى إنه دخل مجلس معاوية وهو يهتف: «يا أهل هذا المجلس أتاكم القطار يحمل النار، اللهم العن الآمرين بالمعروف، التاركين له، والناهين عن المنكر المرتكبين له»،
واستمر محامى الفقراء فى توجيه انتقاداته الثورية، ونشر دعوته للتشيع، فى ربوع الشام وخاصة منطقة جبل عامل، فكتب معاوية إلى الخليفة يقول له: «إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام.. تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك.. فقد حرف قلوبهم، وبغضك إليهم فلا يستفتون غيره، ولا يقضى بينهم إلا هو.. فإن كانت لك فى القوم حاجة، فاحمله إليك»، وذكر ابن بطال فى كتاب «الغدير»: أن جيش معاوية كان يميل إلى أبى ذر، فأقدمه عثمان خشية الفتنة، وهكذا كان بقاء الثائر فى الشام خطرا، وعودته للمدينة أخطر، وعندما عاد عاتبه عثمان بشأن الشكوى، فقال له: «نصحتك فاستغششتنى، ونصحت صاحبك - يقصد معاوية - فاستغشنى»،
ولما أعطى عثمان أموالا لمروان والحارث بن الحكم تصاعدت معارضة أبى ذر للسياسة المالية، وخرج يرفع صوته فى الطرقات وهو يقول «بشر الكانزين بعذاب أليم»، ويتلو قوله تعالى: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم»، وهكذا كان «أول متظاهر» فى الإسلام بالمعنى الحديث لكلمة التظاهر، بل إن شعاراته تتشابه مع الشعارات الحالية مثل «الفقراء أولا»، وضرورة محاكمة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، وتحفظ كتب التاريخ الكثير من الشعارات التى طرحها الغفارى، بنفس أسلوب المعارضة السياسية هذه الأيام ومنها: «عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس»، «إذا سافر الفقر إلى مكانٍ، قال الكفر خذنى معك»، «أحب الجوع ليرق قلبى، وأحب المرض ليخف ذنبى، وأحب الموت لألقى ربى»، «إنى لكم ناصح وإنى عليكم شفيق»، «إن بنى أمية تهددنى بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحبّ إلىّ من ظهرها والفقر أحبّ إلىّ من الغنى»،
وكانت أقوال أبى ذر تبلغ عثمان، فأرسل إليه أن يتوقف، فقال أبوذر: أينهانى عن قراءة كتاب الله؟، وغضب عثمان، وأمر بإبعاده إلى الربذة، وقيل إن الغفارى لم يكن يحب ذلك المكان القاحل فقال: هل أخرج إلى أرض لا زرع فيها ولا ضرع، فانبرى حبيب بن مسلمة من بين حاشية الخليفة وقال له بخيلاء: لك عندى خادم وألف درهم و500 شاة، فقال له أبوذر، وكان قد هاجم إسرافه وتبذيره من قبل: أعط ألفك وشويهاتك وخادمك لمن هو أحوج منى، فأنا أسأل حقى فى كتاب الله، ولا أستجدى. وأمر الخليفة بإخراج أبى ذر إلى المنفى سريعا ومن دون أن يكلم أحدا تجنبا لتحريضه الناس، وطلب من مروان حراسته، وعند مشارف المدينة، لحق به على بن أبى طالب وأخوه عقيل، والحسن والحسين، وعمار بن ياسر، ليودعوه، وقال له الإمام: «يا أبا ذر إنك غضبت لله، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى، ونفوك إلى الفلا، والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا، ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا.. يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل»،
واستمر أبوذر فى منفاه يهاجم الأغنياء المترفين، ويناصر الفقراء المظلومين، ويندد بسياسة عثمان فى إغداق الأموال على فئة من الأمويين، ويعارض اختِيار الولاة والمسؤولين من ذوى القربى، حتى لو كان بعضهم جاهلا مثل عبد الله بن أبى سرح الذى ولاَّه على مصر وكان أخاه من الرضاعة، وبعضهم كان سكيرا فاسدا مثل الوليد بن عقبة الذى ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبى وقاص، ولما ذاعت فضائحه عزله وولى مكانه سعيد بن العاص الذى كان متسلطا مغرورا، يردد دوما أن هذه البلاد «بستان قريش»، فيما عانى الغفارى حياة الضنك فى منفاه حتى وهن ومرض فجلست زوجته بجواره تبكى، فسألها: فيم البكاء؟، فقالت: لأنك تموت فى الصحراء، وليس معى أحد، ولا عندى ثوب أكفنك فيه، فقال: لا تبكى، فإنى سمعت رسول الله يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة، فتشهده ثلة من المؤمنين، ولما مات مر عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فسأل: ما هذا؟ قيل: مات أبو ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله: يرحم الله أباذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ثم صلى عليه، ودفنه.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire