vendredi 18 mars 2011

دور المفكر وحدود حريّة الفكر

ما هي مهمّة المفكّر ؟؟ وما حدود حرية الفكر ؟؟ وهل هناك ثوابت ومقدّسات أو خطوط حمراء ترتفع عن مستوى النقد والمساءلة والفحص العقلي والموضوعي ؟؟ ومن له الصلاحية بتحديد تلك الثوابت ؟؟ وكيف يتم تحديدها وعلى أي أساس ؟؟ وهل الإعتراض على أسس الثقافة السائدة ونقد مقوّمات النظام الإجتماعي والسياسي والديني يبرّر انتهاك الأنظمة والخروج سلطة الدولة، أو الإنضواء تحت رايه التنظيمات السرّية أو العُنفية والتآمر لإسقاط الدولة أو السلطة وهدمها ؟؟ وأي طريق أفضل للإصلاح والتغيير : طريق الثورة والتغيير الجذري لكل أسس الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، أم طريق الإصلاح البطيء الهادئ والمتدرج في مراحل ؟؟؟

تلك أسئلة اختلفت فيها وجهات النظر وزوايا الرؤية منذ القديم ولاتزال .. وسوف نحاول أن نقارب الموضوع اعتمادا على سيرة الفيلسوف اليوناني سقراط أقدم شهداء حريّة الفكر عبر التاريخ، وهي سيرة شديدة الغنى والخصوبة ومليئة بالدلالات والإلهام والعِبَر ..



سقراط (470 ق.م – 399 ق.م)


الحوارات السقراطية
سقراط العظيم لم يترك وراءه كتبا أو مؤلفات، ولم يكن له معهدُ أو مدرسة أو أكاديمية يلقي فيها الدروس والمحاضرات على طلابه، بل كان يتجوّل على قدميه في الأسواق والمحافل والميادين والأزقة، يلقي بالأسئلة ويتحاور ويتجادل ويحلل الآراء والأفكار باحثا عن معرفة يقينية ..

وكانت له طريقة متفرّدة في الحوار يستخرج فيها ما في عقول الناس من مفاهيم عن الأمور والقضايا ويحكم عليها بالصّحة أو البطلان، مثلما كانت أمه قابلة تستخرج الأولاد من بطون أمهاتهم .. ويبدأ سقراط في البداية بأن يعلن لمحاوِرِه بأنه لايعلم شيئا، وأنه يريد أن يتعلّم منه، ثم يأخذ في فحص ما يدلي به محاوره ويكشف عما يحتويه من تناقض أو زيف أو قصور .. هادفا من ذلك الوصول إلى تحديد دقيق للمفاهيم والمعاني وليس الإفحام .. ولكن مجرى الحوار يكشف بوضوح أن سقراط أعلم من محاوره، وأن هذا المحاور الذي يدّعي العلم والمعرفة والإختصاص هو في الحقيقة لايعرف شيئا، ويصبح في موقف حرج ويتحوّل إلى أضحوكة وسخرية، وهذا مايُسمّى (التهكّم السقراطي) ولو أنه تهكّم غير مقصود ..

وهكذا كان سقراط يتجوّل في الأسواق والمحافل، ويحاور ويناقش حول الأفكار والمفاهيم السائدة، مثل مفاهيم الفضيلة والرذيلة، التقوى، الحسن والقبيح، الجمال، العدل .. وكل القيم التي يعتقد بعض الناس أو كثير منهم أنها بديهيّات وذات معاني واضحة ومحدّدة، ليكتشفوا في نهاية المطاف أن الأمر ليس بتلك البساطة، وأنهم في الحقيقة لايعرفون شيئا، وأنهم مقلّدون يقبلون كل شيء بدون فحص وبدون إعمال للعقل .. وكان سقراط( حسب نبوءة كاهنة معبد دلفي على لسان الإله أبولون) هو أكثر الرجال حكمة لأنه الوحيد الذي يعلم أنه لايعلم، وأن كل حكمة البشر ليست شيئا بالقياس إلى حكمة الآلهة، أما الآخرون فهم يدّعون العلم وهم في الحقيقة لايعلمون ..

تلك الطريقة في الحوار أثارت عداوة أهل أثينا على سقراط، لأن الناس تكره أن توصف بالجهل أو يكشف لها الآخرون عن جهلهم، وزاد الأمر سوءا أن الشباب افتتن بسقراط وهو يتبع خطاه في كل مكان، ثم يسخر من هؤلاء الوجهاء وأدعياء المعرفة والعلم، بل ويقلّد سقراط في طريقته في التساؤلات والفحص والمحاورة ..

ولم يكن هناك مذهب معيّن أو أيديولوجيا خاصة بسقراط، ولم تكن الحقيقة عنده عقيدة ثابتة أو مسلّمات وثوقيه(دوغماطيقية) بل هي وليدة تبادل الأفكار وثمرة للحوار والنقد الذاتي والتصحيح المتبادل بين الطرفين .. ولأجل ذلك قيل إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أي من البحث في الطبيعة والكون إلى البحث في الإنسان والأخلاق، وشعاره الخالد هو " إعرف نفسك بنفسك " ..

انتقد سقراط في محاوراته التي يرويها أفلاطون الأفكار السائدة عن الدين والسياسة، وكانت انتقاداته من العمق والجذريّة بحيث تطال أسس النظام الديني والسياسي السائد .. فهو قد انتقد الأساطير التي يرويها الشعراء عن الألهة وصراعاتها لأنها تقدّم صورة غير لائقة عن الآلهه، وتنسب لهم كثيرا من النقائص .. الآلهة تتناحر وتتصارع وتسرق وتزني وتخدع .. هل يمكن قبول ذلك ؟؟ ويخلص سقراط إلى نتائج خطيرة، وهي أن الدين أو بالأصح الديانة الرسمية الأثينيّة لاتصلح أن تكون أساسا سليما للأخلاق .. كما انتقد سقراط أيضا النظام السياسي القائم على الإنتخاب، ورجّح عليه اختيار أهل الكفاية والإختصاص للمناصب، لأن الإنتخاب قد لايجيء بالكفء ولايضع الرجل المناسب في المكان المناسب ..

ليلة القبض على سقراط !
وعندما طفح الكيل بأهل أثينا من الوجهاء والكبراء وكان لابد من إجراء لإسكات سقراط وتأديبه، ويروي لنا تلميذه أفلاطون في "الجمهورية" وقائع اعتقال أستاذه على يد دورية من شرطة أثينا، تمهيدا لتقديمه للمحاكمة، في سطور تكشف الكثير من الخفايا والملابسات عن حياة سقراط وخلافاته المعروفة مع زوجته، وعن آرائه السياسية في النظام الديمقراطي الإنتخابي في أثينا، كما تعطينا صورة عن أسلوب سقراط في المحاورة، وإن كانت مصاغة بقلم أفلاطون، فلنقرأ ونتابع ..

«في صباح يوم عذب الأجواء، الشمس فيه ساطعة، آثر سقراط البقاء في منزله ـ على غير العادة ـ فلم يخرج للحوار أو المجادلة في أسواق أثينا، وإنما جلس على مقعد خشبي عتيق في فناء داره التي كان يستعملها غرفة استقبال وأخذ يخصف حذاءه، ولعل هذا ما منعه عن الخروج في ذلك اليوم.
وبينما هو على تلك الحال، وإذا بزوجته (زانتيب) تنقض عليه انقضاض الصاعقة وتفاجئه صارخة في وجهه:
ـ أنت هنا يا سقراط النحس!

* نعم يا زانتيب، ولكن لا أفهم المقصود من تلك العبارة؟!

ـ وما الذي تفهمه أنت من شؤون الحياة؟! سأعد لك الطعام بعد دقائق.

* الطعام المعتاد طبعاً!

ـ لو كنت تعمل عملاً شريفاً، وتحصل منه على بعض النقود مثل سائر الرجال المجدين، لما أصبحنا في حاجة لأكل الخبز والعدس يوماً بعد آخر!!

* يا زانتيب من لا يسأل غير الكفاف يكون بلا شك أعظم الناس شبهاً بالآلهة.

ـ قل هذا الهذيان لأصحابك، أما أنا فلا تهذي معي، لو أنك فكرت في أمري وأمر الأطفال لما جننت لدرجة أنك أصبحت تناصب الحكومة العداء!

* أحقاً يا زانتيب تخشين عليّ من الحكومة؟!

ـ ليت أنهم يلقون بك في غياهب السجون.

* عندئذ تصبحين أسعد حالاً؟!

ـ لولا أنني أخشى ما سيحل بي من بعدك!!

* إن اصدقائي لا يفتأون يقدمون لنا نقوداً.

ـ (مقاطعة) وأنت دائماً ترفضها!

* بالتأكيد، أما أنت فسوف لا ترفضينها!

ـ وهل تريد أن نموت جوعاً أنا والأطفال!! قل لي يا سقراط. لماذا يقتل الشبان الموسرون أوقاتهم في أمور تافهة يناقشونك فيها، ولا يتركونك لتبحث لنفسك عن عملٍ يجلب لنا الطعام؟!

* لقد اشتغلت بجد ونشاط عندما كنت شاباً.

ـ وأنفقت كل ما جمعت على الناس! لقد نفد صبري معك يا سقراط.

* لاحظت ذلك.

ـ آه.. آه.. ليت أنك تغتاظ، وتفقد حلمك معي ولو لمرة واحدة!!

* انك تحاولين عبثاً إيقاد خشب مبتل.

ـ سحقاً لك يا سقراط .. سحقاً لك! سوف لا تجد من الطعام غير الماء والخبز الجاف.

• هذا كل ما أريد

«يسمع طرق على الباب، فتقوم زانتيب بفتحه، وإذا بمليتاس يتقدم نحو سقراط قائلاً»:

ـ أتسمح لي يا سقراط بالبقاء معك لدقائق معدودة؟!

* بالطبع.. ولكنك منذ ثلاثة أيام قلت انك سوف لا تكلمني أبدا ً!!

ـ لقد كان ذلك هياجاً سخيفاً، وكنت أنت على حقٍ وصواب، وجئت إليك لأعترف بخطئي إلى جانب غرض آخر!

* وما هو الغرض الآخر؟!

ـ أن استأذنك عما إذا كان بإمكاني إحضار صديقين يتلهفان لمعرفتك!

* بابي مفتوح للجميع، ولكن من هما؟!

ـ إنهما (أنيتاس) الدباغ، و(ليكون) الخطيب اللذان لهما مستقبل باهر في السياسة، وقد سنحت لهما الفرصة الآن.

* الآن؟ ولِمَ الآن؟!

ـ أحقاً لم تسمع بعد يا سقراط بما حدث؟!

* لم أسمع عن شيء!

ـ لقد سقطت الحكومة الاستبدادية، وقامت مكانها حكومة ديمقراطية.

* وما معنى ذلك ؟!

ـ معناه أنك أصبحت بعيداً عن الخطر من الآن فصاعداً.

* أواثق أنت من عدم غضب الحكومة الحاضرة عليّ كما كانت الحكومة السالفة؟!

ـ أونسيت يا سقراط أن لك عدداً كبيراً من الأصدقاء في أثينا؟!

* ولي أضعاف أضعافهم من الأعداء! (يُسمع طرق على الباب).

ـ ها هما قد حضرا يا سقراط.

• من ؟! أعدائي ؟!

• ـ كلا.. كلا.. بل أصدقاؤك الجدد .

وما أن يدخلا، حتى يبدأ ليكون بالحديث إلى سقراط قائلاً:

ـ قد تتساءل يا سقراط عن سبب زيارتنا لك الآن؟!

* صدقت !

ـ إننا ديمقراطيان متحمسان، ونعد الديمقراطية هي الشكل الوحيد من الحكومات الذي يرضي أفراد الشعب ممن يحترمون أنفسهم، ويعتزون بكرامتهم.. وإننا ليسرنا يا سقراط العظيم أن توافقنا على هذا الرأي.

* إن شكل الحكومة أيّاً كان لا يعني أنها أفضل من غيرها لأن كل شيء يتوقف على نوعية الأشخاص الذين يحكمون.

ـ ولكنك يا سقراط تؤيد المبادئ الديمقراطية بالطبع!

* هل للسيد ليكون أن يعرفني ما هي الديمقراطية؟! وأرجوك ألا تضيق ذرعاً بغبائي!

ـ الديمقراطية هي الحكومة القائمة على رغبة الشعب، وهي المبنية على المساواة المطلقة بين الأفراد.

* عظيم جداً ولكن هل تسمح لي بتوجيه بعض الأسئلة التي أرجو ألا تزعجك؟!

ـ سل ما تشاء.

* أتُسَلِّم يا ليكون مبدئيا أن التجارة مثلاً ليست من الأمور الهينة، وكذلك إدارة الجيش؟!

ـ بالتأكيد.

* وأن إدارة الحكومة تدخل ضمنها التجارة والجيش والزراعة وأشياء أخرى يصعب حصرها !

ـ بالطبع .

* وان من الضروري أن يدير حكومة كهذه كثيرة الفروع، مختلفة الأغراض أناس ذوو عقول راجحة.

ـ بالضرورة طبعاً.

* وهؤلاء يُختارون بالتصويت العام.. أليس كذلك؟!

ـ نعم.. هو ما تقول.

* وأنت تقول يا ليكون إنه لا بد من اشتراك الأفراد في الحكومة اشتراكاً مبنياً على المساواة في التصويت؟!

ـ وما زلت محتفظاً بنظريتي تلك باعتباري ديمقراطياً.

* معنى ذلك أن الفرد الغبي له سلطة تعادل سلطة الرجل الذكي؟!

ـ (بغضب).. إننا نعتمد الإجماع الذي لا يقبل الخلل. ثم ما الذي ترمي إليه من محاورتك هذه؟!

* لا شيء سوى الوصول إلى الحقيقة التي أرى أنها أغضبتك !!

ـ إذا كان هذا رأيك في الديمقراطية فماذا تقول بالآلهة والتعبد إليها؟!

* لكي أجيبك.. يلزمنا أن ننظف أدمغتنا، كما ننظف دورنا من سقط المتاع!

ـ وما هو سقط المتاع يا ترى؟!

* هو عبارة عن معتقدات ورثناها، وسرنا عليها، وأرى أنها قد ماتت وأخذت في التعفن والاضمحلال!

* وتستمر المحاورات بين سقراط ومليتاس وليكون وأنيتاس لتسفر في النهاية عن خروج المتحاورين معه وهم في أشد حالات الغضب، وما هي إلا فترة وجيزة حتى يقدم الجنود ليطرقوا باب بيت سقراط بعنف، وما إن همّت زانتيب بفتح الباب حتى أخذت تصرخ في وجه سقراط:

ـ ألم أقل لك أن تكف عن الجدل، آه (تأخذ بالبكاء) آه يا زوجي العزيز، ما يميزك عن سواك أنك لم تنهرني قط، ولم تضربني كما يفعل الرجال من غلاظ القلوب. واحزناه.. إنك لم تذق طعاماً منذ ظهر أمس يا سقراط الحبيب.

• ويتقدم سقراط نحو الجنود قائلاً:

مهلاً أيها الأعزاء، أنا قادم معكم.. وداعاً يا زانتيب لا تجزعي، إنني لم أعبأ قط بالحياة، ولا بالموت، بل بالحقيقة التي سأعذب ولا شك من أجلها .



محاكمة سقراط
كان المدّعي شخص يُدعى" ميلتوس"، وقام برفع دعوى حِسبة ضد سقراط، وكان المحرّض الأول هو أحد زعماء الحزب الديمقراطي ويُدعَى " أنيتوس" .. وكان مضمون الإتهامات الموجّهة ضد سقراط هي "إفساد الشباب" و" عدم إحترام الإلهة بل وإنكار وجودهم"، و" محاولة إدخال آلهة جديدة"، و " التأمل في الأشياء العلوية والبحث فيما هو في باطن الأرض"، وأنه " يقلب الحجج الضعيفة إلى قويّة " ..

مثُل سقراط الذي جاوز السبعين أمام محكمة من خمسمئة قاضٍ في ميدان في الهواء الطلق والجو الصحو المعتدل، بالإضافة إلى حضور مئات من المشاهدين والجمهور، وبعد أن ألقيَت عليه الإتهامات تولّى بنفسه المرافعة والدفاع كما هو القانون وقتها، وقام بمحاورة المدّعي ميلتوس بنفس طريقته التي أثارت عليه الإنتقاد ليتوصّل في النهاية إلى أن المدّعي جاهل وغير مختص بإصلاح الشباب، ولايعرف كيف يكون إصلاحهم او إفسادهم، وأنه لايميّز آراء سقراط من آراء الفلاسفة السابقين .. ولم يكن همّ سقراط في الحقيقة هو تبرئه نفسه بل قول الحقيقة والإتساق مع فكرة ومواقفه .. ولذلك لم يلجأ للأساليب الخطابية السائدة في المحاكمات، ولم يُحضِر معه زوجته وأبناءه لإستدرار عطف القضاه وشفقتهم، ولم يتوسّل أو يسترحم ويبكي .. وكل ذلك سوف يثير قضاته بلا شك وسيعتبرونه تحدّيا لهم ..

كان التصويت على مرحلتين .. المرحلة الأولى لتحديد هل المتهم مذنب أم لا، والمرحلة الثانية هي لتحديد العقوبة في حال كونه مذنباً .. وكانت نتيجة التصويت الأول هو إدانة سقراط بفارق قليل في النقاط، وفي تلك الحالة يكون من حق المتهم تحديد العقوبة .. ولكن سقراط رأى أنه غير مذنب، ولايستحق أي عقوبة من السجن او القتل أو النفي بل يستحق أن يعيش بقية حياته على نفقة الدولة، وإن كان لابد من غرامة فسوف يدفع مبلغ " مينا" واحداً وهو مبلغ تافه، ولكن بعد إلحاح أصدقائه وخاصة أفلاطون سوف يزيد الغرامة إلى ثلاثين ميناً .. كل هذا سوف يعتبره القضاة سخرية وتهكما بهم ومدعاة للغيظ الشديد، ولذلك كانت نتيجة التصويت الثاني إدانة سقراط بأغلبية اكبر والحكم عليه بالإعدام بتجرّع السم ..




لوحة للفنان الفرنسي جاك لوي ديفيد تصوّر سقراط وهو يتعاطي كأس السمّ



آخر كلمات سقراط
وتعتبر" محاورة الدفاع" التي دوّنها أفلاطون عن سير المحاكمة وكلمات سقراط للقضاة والجمهور من أمتع المحاورات، وأكثرها دلالة على فكر سقراط ومبادئه، ولاغنى عن قراءتها لمن يريد أن يعرف من هو سقراط، وليت المجال يسمح بنقلها كاملة فهي إحدى الروائع الخالدة على مرّ الزمان .. ولكن نقتطف منها بعض كلمات، فاقرأ واستمتع واطرب:

- " إذا قلتم لي يا سقراط إنا سنعفو عنك الآن، ولانشترط عليك إلا أن تكف من هذه الساعة عن متابعة البحث والتفكير على هذا النمط، فإني سأجيبكم قائلا إني أحبكم يا أهل أثينا وأحبكم، ولكني سأطيع الإله ولا أطيعكم، ولن أمتنع مادمت حيّا ومادام لدي عن الإشتغال يالفلسفة وتعليمها للناس، وعن القيام بوعظ كل ما ألقاه على طريقتي الخاصة .. "

- " برّئوني أو لا، ولكني لن أفعل على اليقين شيئا آخر غير هذا (أي التفلسف والموعظة) .. إنه من مصلحتكم أن تنصتوا .. إني أريد أن أقول لكم أشياء ربّما جعلتكم تصرخون .. "

- " تيقنوا أنكم إن أعدمتموني فإنكم لن تضرّوني أنا بقدر ماتضرّون أنفسكم .. قد تحكمون بإعدامي في عجلة .. وقد تقضون البقية الباقية من حياتكم في النوم بلا انقطاع، اللهم إلا أن أرسل الإله إليكم رجلا آخر شفقةً بكم .."

- " يا أهل أثينا في الحقيقة تحمّلتم بتعجلكم ثقل الملامه، وفسحتم المجال لمن يعيب عليكم ويطعن فيكم لموت
سقراط العالم، ورغم أنني لست عالما ً إلا أنهم سيصفونني بالعالم رغما ً عنكم، ولكن لو تحملتم وصبرتم قليلا ًلوجدتم أنني شيخ على حافة القبر، ولايمضي وقت طويل حتى أموت فتحصلون أنتم على ما تريدون "

- " ليس هناك من بشر قادر على إنقاذ حياته إن هو عارضكم معارضة حقيقيّة، أنتم أو أيّة جمعيّة شعبيّة أخرى، وحاول منع كثير من ألوان الظلم ومخالفات القانون من أن تحدث في المدينة .. "

" حتى تهديدكم بالموت لايخيفني، فلا تظنوا أنكم أقوياء بهذا ... "-

وكأنّ سقراط كان يسعى للموت بقدميه بعد هذا التحدّي والإستفزاز، ولم يكن هناك خيار، فبعد صدور الحكم بالموت أودع السجن وبقي فيه شهرا، ورغم محاولة بعض تلامذته تدبير هروبه من السجن ورشوة الحرّاس إلا أنه رفض الهروب قائلاً بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت هذه القوانين جائرة .. ويمكن الرجوع لمحاورة أكريتون لنرى كيف يحاور سقراط تلميذه على طريقته المعهودة في الحوار من السؤال والجواب، حتى يقنعه في النهاية بصواب قراره وأنه لايجوز أن يتناقض مع مبادئه التي عاش حياته في سبيل ويتخلّى عن مصداقيّته في سبيل الحياة بعدما جاوز السبعين من العمر .. وأخيرا شرب سقراط السمّ ورحل في هدوء ليكون مثلا شرودا للتضحية بالنفس في سبيل العقيدة والإستشهاد في سبيل المبادئ ..

يتبع ....


اضافة رد مع اقتباس
فتى مكة
مشاهدة الملف الشخصي
البحث عن المزيد من المشاركات التي كتبت بواسطة فتى مكة
قديم 08-03-2007, 06:26 PM #2
معلومات العضو
فتى مكة
كذا أنا يا دنيا

احصائية العضو







فتى مكة غير متواجد حالياً


دروس من سقراط
كان سقراط مواطنا صالحا محبا لشعبه ووطنه ساعيا لمجده ورفعته، وقد شارك في ثلاث حروب ضد أعداء أهل أثينا كما شارك في بعض المجالس السياسية لبعض الوقت .. ورغم الإنتقادات القوية لسقراط والتي تطال أسس الحياة السياسية والدينية لمجتمع أثينا، إلا أنه كان مطيعا للقوانين وملتزما بها حتى آخر لحظة، وحتى لو كانت ظالمة بنظره فلابد من التقيّد بها والسعي لتغييرها من الداخل، وليس التمرّد عليها أو التآمر ضدّها، والخروج على أنظمة الدولة التي بسببها يولد المواطن ويعيش ويتعلّم، ويمارس معاملاته التجارية والإجتماعية وفي كل مجالات الحياة .. فضلا عن الخيانة والتآمر والإرهاب والإنضمام للتنظيمات الإرهابية والفئة الضالة التي تكفّر الدولة والمجتمع وتستحل الدماء والأموال .. فلم يقل سقراط مثلا إن حكومة أثينا كافرة وموالية للكفار، وحكّامها منافقون ومرتدّون، وأموالهم غنيمة ونساءهم سبايا للمسلمين ( ! ) .. وهذا من أهم الدروس في سيرة سقراط وأفكاره يستحق الوقوف عنده مليّا ..

والدرس الثاني الهام هو علاقة الفكر بالواقع وارتباطه بمشكلات الناس وهمومهم، وأن المعرفة هي الموجّه للسلوك، وأن التقوى والفضيلة قائمة على المعرفة، المعرفة ليست ترفا أو تنظيرا جافا متفلسفاً، بل هي دليل العمل .. هناك وحدة الفكر والسلوك، والقول والعمل .. وأن الحياة التي تستحق أن نحياها هي الحياة الفاضلة العاقلة وليس أي حياة، حيث الإهتمام بالنفس والأخلاق له الأسبقية على الإهتمام بالجسد والثراء والشهرة .. وكل هذا بعد أن أنزل سقراط الفلسفة من علياء برجها العاجي، ومن البحث في الأفلاك والسماوات والطبيعة إلى البحث في الإنسان أخلاقاً ومعرفةً ..

محاولات للتفلسف على طريقة سقراط !
في حياتنا الثقافية المعاصرة كثير من المصطلحات والمفردات السائدة، والتي تدور حولها المعارك والمساجلات، وربّما تكون معانيها مشوّشة أو غائمة لدى المختلفين، وليس لها تحديدات واضحة في أذهان المختلفين، ويتم تصنيف الناس على مقتضاها وإصدار الإحكام والتوصيفات والإتهامات، في حين تحتاج منا وقفة لاستجلاء معانيها بدقة ووضوح وفحص، واستخراج وتوليد كل المعاني المضمرة الكامنة بها، واختبار مدى صلاحيتها وصدقها وبعدها عن التناقض أو القصور أو الإيهام، مثلما كان سقراط يفحص الأفكار ويحللها للوصول إلى معانيها الصحيحة بعيداً عن التناقض والإشتباه والإلتباس .. ورغم أن الحوار السقراطي كان يقوم على طريقة السؤال والجواب للوصول إلى معاني محدّدة في النهاية، إلا أن تلك الفكرة تروق كثيرا، وقد خطر لي أن أجرّب تطبيقها على بعض الأفكار والمصطلحات السائدة .. ومن تلك المصطلحات "العلمانية" و"السلفيّة" ..

فحص السلفيّة
فلو أخذنا مصطلح "السلفية" سنرى تعدّد التعريفات واتساع مداها النسبي، بحيث يمكن الحديث عن سلفيّات لاسلفية واحدة، ولو فحصنا أحد التعريفات الشهيرة للسلفية بأنها " الرجوع للمنابع الأصلية للدين، والإقتداء بالسلف الصالح وفهم الإسلام على طريقتهم(ومن هنا جاءت الكلمة)، وأن السلفيّة هي الإسلام الصحيح .." هذا التعريف يتضمن عدة مسلّمات أو مصادرات بلغة المنطق .. فهو يفترض أولا الإتفاق على تحديد من هم السلف، ويفترض ثانياً أن هناك فهما موحّدا لهذا السلف في كل شؤون الدين وقضاياه الفقهية والفكريّة، وماعلينا إلا اقتداؤه والسير على نهجه، ويفترض ثالثا التطابق بين دائرة الإسلام ودائرة السلف أو السلفية، مما يعني إقصاء كل مخالف، واحتكار الحقيقة المطلقة لفريق محدّد .. في حين أنه ينبغي للتسليم بهذا التعريف أن نحدّد بالضبط من هم السلف هؤلاء ؟؟ هل هم الصحابة جميع الصحابة والتابعين وتابعيهم ؟؟ أم هم أهل القرون(أي الأجيال) الثلاثة الأولى جميعا؟؟ أم مجموعة مختارة ومنتقاه منهم ؟؟ وإذا افترضنا أننا حددنا معنى السلف فيجب أن نثبت إتفاقهم في كل المواقف سواء في المنهج أو الأفكار، فإذا اختلف المنهج فأي منهج نأخذ به ؟؟ وإذا اتفق المنهج فأي رأي نأخذ به، وعلى أي أساس ؟؟ وماهو الرأي الصحيح الواجب اتباعه والمعبّر عن الإسلام الصحيح ؟؟ لو كانت قضية فقهية مثلا واختلف فيها الصحابة، فهل نأخذ مثلا بقول عمر بن الخطاب أو أم المؤمنين السيّدة عائشة ؟؟ ابن عباس أو ابن مسعود أو ابن عمر ؟؟ وإذا اختلف التابعين فهل نأخذ بقول الحسن البصري أو مجاهد أو عطاء بن أبي رباح أو مكحول ؟؟ في الحقيقة التعددية والخلاف أمرٌ معروف ومعلوم للكافة، ولو فتحنا تفسير الطبري مثلا لرأيناه يسرد الكثير من خلافات الرأي بين الصحابة والتابعين في التأويل ومسائل الفقه والإجتهاد ..

ونواصل تحليلنا للمصطلح فنتساءل عن أهم ركن من أركان التعريف وهو " فهم الإسلام على طريقة السلف الصالح " وذلك بافتراض أننا حدّدنا معنى "السلف الصالح" وبرهنا على اتفاقهم، وهو معتذر كما رأينا، فهل هناك دليل صريح يوجب علينا الإلتزام بشيء غير كتاب الله وبلاغ رسوله الكريم ؟؟ هل نصّ الله في كتابه على الإلتزام بفهم أشخاص غير معصومين وغير مرسلين ؟؟ إن الرسول نفسه وظيفته البلاغ عن الله وليس اختراع الأحكام والتشريعات، فما بالنا بمن هو دونه ؟؟ أليس هذا ابتداعا كبيرا وإلزاما بشيء ما أنزل الله به من سلطان ؟؟

ونحن هنا لانناقش مضمون أفكار السلفية، ولانتعرّض لأيديولوجيتها نقدا ولامدحاً، ولكننا لانزال في حدود تعريف المصطلح لنصل إلى معنى دقيق وتعريف جامع مانع على طريقة سقراط، حتى لانخوض في سجالات بدون تحديد المنطلقات والأفكار ..

فحص العَلمانية
ولنأخذ مصطلحا مثيرا آخراً طالما دارت حولة السجالات والمعارك الشرسة، وهو " العَلمانيّة" .. ولنفحص على نفس الطريقة أشهر تعريف وهو " فصل الدين عن الدولة " ..
هذا التعريف يستلزم أن يكون في أذهاننا تحديدا واضحا لمعنى مفردات مثل " دين" و " دولة " و" فصل أو دمج " الدين بالدولة وكيفيّته .. فهل مثل هذا التحديد قائمُ في أذهان كل المتجادلين ؟؟

فما هو المقصود أولا بكلمة "دين " ؟؟ هل هو الإيمان بالله والغيب والتصوّرات اللاهوتيّة، أي بتعبير الفلسفة الإيمان بالمطلق والمتعالي ؟؟ أم هو الشعائر والطقوس التعبّدية ؟؟ أم هو التشريعات والأحكام ؟؟ وهل الدين هو النص فقط أم التأويل أيضاً ؟؟ وهل هناك تمييز واضح بين الدين والفكر الديني، وبين الدين والتظيم الديني السياسي أم لا ؟؟

وماهو معنى مصطلح" الدولة " في أذهان المتحاورين ؟؟ .. لو راجعنا أي مصدر في علم السياسة سنرى اختلافات في تعريف مفهوم الدولة، ومن تلك التعريفات أن الدولة :" كيان سياسي وقانوني منظم يتمثل في مجموعة من الأفراد الذين يقيمون على أرض محددة ويخضعون لتنظيم سياسي وقانوني واجتماعي معين تفرضه سلة عليا تتمتع بحق استخدام القوة" .. وأن عناصر الدولة في كل التعريفات هي الشعب والأرض والحكومة والسيادة والإستقلال والإعتراف الدولي ..

إن مفهوم الدولة بهذا التعريف هو مفهوم حديث نابع من نشوء الدولة القومية البورجوازية في أوروبا، أما في الفكر الإسلامي القديم فليس هناك مفهوم محدّد للدولة، وغالبا عندما يقال "دولة" فإن المقصود هو الحكم أو السياسة وليس الدولة بهذا التعريف الشامل ..

ولو تدرّجنا خطوة في تحديد التعريف لنسأل كيف يكون "الفصل" أو "الدمج" بين الدين والدولة في تصوّرات بعض المتحاورين ؟؟

إن دساتير معظم دول العالم ومنها كثير من الدول الإسلامية، والتي تنصّ على العلمانية نصا صريحا في الدستور، توضح مفهوم العلمانية ومعانيه المضمرة بعناصر مثل :" الأمة مصدر السلطات ونفي الحكم بالحق الإلهي، المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بسب اختلاف الدين أو المذهب أو العِرق، حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر التعبّدية كل الملل والطوائف، حيادية الدولة تجاه الدين وعدم تدخل المؤسسة الدينيّة (الكنيسة مثلا) في السياسة، وعدم تدخل الدولة في شؤون الدين ... " ويظهر من ذلك أن العلمانية هي صفة للنظام السياسي قبل تكون وصفا للأفراد، فضلا عن أن تكون شتيمة أو تكفيراً كما هو رائج في كثير من أدبيّات الإسلام السياسي ..

فهؤلاء المتحاورون حول العلمانية، هل حدّدوا أولا معنى "الدين" الذي يقصدون، وأي مستوى من مستوياته ؟؟ وهل حدّدوا بالضبط المقصود من مصطلح "العلمانية" وناقشوا عناصرها التفصيلية، وماذا يقبلون منها وماذا يرفضون، ولماذا ؟؟ وبطريقة معرفية موضوعية وليست سجالية ؟؟

وهل هناك تصوّر واضح لمعنى "الدولة الدينية" و"تطبيق الشريعة" ؟؟؟ هل هي دولة يحكمها الفقهاء والمشايخ والمطاوعة، وليس الأخصائيون في السياسة والإقتصاد والقانون ؟؟ وهل للحاكم صفة دينية مثل الإمام المعصوم لدى الشيعة وغيرهم من الطوائف، أم هو منتخب من الشعب وخاضع للمساءلة الرقابة ؟؟ وما المقصود بتطبيق الشريعة على وجه اليقين ؟؟ أهو مجرّد تطبيق ثلاثة أو أربعة حدود عقابية للسارق والزاني والقاتل فقط ؟؟ أليست الشريعة مقاصد ومصالح وليست مجرّد حدود ؟؟ وأليس تطبيق الشريعة يعني في النهاية تطبيق إحدى مدوّنات الفقه الإسلامي، الحنفي أو المالكي او الشافعي أو الحنبلي، أو غيرها من المذاهب ؟؟ أليست الشريعة مختلفة عن الفقه ومتمايزة، كون الشريعة من الله والفقه إجتهادات الفقهاء في فهم الشريعة ؟؟؟ وفي تلك الحالة هل يكون الإلتزام باجتهادات فقهية معيّنة هو واجبٌ ديني، وهو عين مقصود الشارع ؟؟

قبل الختام
هذه مجرّد نماذج من الأسئلة التي يمكن أن تثار عن معالجة تلك الموضوعات واتخاذ المواقف والآراء، وليس هدفنا الإجابة عنها أو طرحها للحوار، بل للتدليل على أن كثيرا من الأفكار والمفاهيم الرائجة ليست بتلك السهولة في الفهم والتوافق، وتحتاج إلى سقراط جديد يقوم بفحص الأفكار وتحليل المعاني وصولا إلى منطلقات يقينية أصبحت ضرورة وأساساً لكل حوار معرفي جاد ..

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire