mercredi 10 août 2011

الثورة فى الإسلام (3)


«عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته!.. كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس»
اختفى أبوذر الغفارى من كتب التاريخ وعاصمة الدولة الاسلامية، طوال خلافة عمر بن الخطاب، ولما بويع عثمان بن عفان ظهرت إشارات المؤرخين عن إقامة الغفارى فى الشام، وتواترت أخبار عن معارضته لسياسة الخليفة المالية وطريقة تعيينه للولاة، وتركزت هذه الآراء الحادة ضد معاوية، الذى انتقد الغفارى منه البذخ الذى يعيش فيه، واتهمه بتبذير أموال المسلمين، فقد بنى قصر «الخضراء» وأنفق عليه الكثير، فقال له أبوذر: يا معاوية، إن كان هذا من بيت مال المسلمين فهى الخيانة، وإن كان من مالك فهو الإسراف، وسعى معاوية لاحتوائه مرة بالترغيب ومرات بالترهيب، لكنه واصل انتقاداته، حتى إنه دخل مجلس معاوية وهو يهتف: «يا أهل هذا المجلس أتاكم القطار يحمل النار، اللهم العن الآمرين بالمعروف، التاركين له، والناهين عن المنكر المرتكبين له»،
واستمر محامى الفقراء فى توجيه انتقاداته الثورية، ونشر دعوته للتشيع، فى ربوع الشام وخاصة منطقة جبل عامل، فكتب معاوية إلى الخليفة يقول له: «إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام.. تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك.. فقد حرف قلوبهم، وبغضك إليهم فلا يستفتون غيره، ولا يقضى بينهم إلا هو.. فإن كانت لك فى القوم حاجة، فاحمله إليك»، وذكر ابن بطال فى كتاب «الغدير»: أن جيش معاوية كان يميل إلى أبى ذر، فأقدمه عثمان خشية الفتنة، وهكذا كان بقاء الثائر فى الشام خطرا، وعودته للمدينة أخطر، وعندما عاد عاتبه عثمان بشأن الشكوى، فقال له: «نصحتك فاستغششتنى، ونصحت صاحبك - يقصد معاوية - فاستغشنى»،
 ولما أعطى عثمان أموالا لمروان والحارث بن الحكم تصاعدت معارضة أبى ذر للسياسة المالية، وخرج يرفع صوته فى الطرقات وهو يقول «بشر الكانزين بعذاب أليم»، ويتلو قوله تعالى: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم»، وهكذا كان «أول متظاهر» فى الإسلام بالمعنى الحديث لكلمة التظاهر، بل إن شعاراته تتشابه مع الشعارات الحالية مثل «الفقراء أولا»، وضرورة محاكمة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، وتحفظ كتب التاريخ الكثير من الشعارات التى طرحها الغفارى، بنفس أسلوب المعارضة السياسية هذه الأيام ومنها: «عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس»، «إذا سافر الفقر إلى مكانٍ، قال الكفر خذنى معك»، «أحب الجوع ليرق قلبى، وأحب المرض ليخف ذنبى، وأحب الموت لألقى ربى»، «إنى لكم ناصح وإنى عليكم شفيق»، «إن بنى أمية تهددنى بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحبّ إلىّ من ظهرها والفقر أحبّ إلىّ من الغنى»،
 وكانت أقوال أبى ذر تبلغ عثمان، فأرسل إليه أن يتوقف، فقال أبوذر: أينهانى عن قراءة كتاب الله؟، وغضب عثمان، وأمر بإبعاده إلى الربذة، وقيل إن الغفارى لم يكن يحب ذلك المكان القاحل فقال: هل أخرج إلى أرض لا زرع فيها ولا ضرع، فانبرى حبيب بن مسلمة من بين حاشية الخليفة وقال له بخيلاء: لك عندى خادم وألف درهم و500 شاة، فقال له أبوذر، وكان قد هاجم إسرافه وتبذيره من قبل: أعط ألفك وشويهاتك وخادمك لمن هو أحوج منى، فأنا أسأل حقى فى كتاب الله، ولا أستجدى. وأمر الخليفة بإخراج أبى ذر إلى المنفى سريعا ومن دون أن يكلم أحدا تجنبا لتحريضه الناس، وطلب من مروان حراسته، وعند مشارف المدينة، لحق به على بن أبى طالب وأخوه عقيل، والحسن والحسين، وعمار بن ياسر، ليودعوه، وقال له الإمام: «يا أبا ذر إنك غضبت لله، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى، ونفوك إلى الفلا، والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا، ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا.. يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل»،
واستمر أبوذر فى منفاه يهاجم الأغنياء المترفين، ويناصر الفقراء المظلومين، ويندد بسياسة عثمان فى إغداق الأموال على فئة من الأمويين، ويعارض اختِيار الولاة والمسؤولين من ذوى القربى، حتى لو كان بعضهم جاهلا مثل عبد الله بن أبى سرح الذى ولاَّه على مصر وكان أخاه من الرضاعة، وبعضهم كان سكيرا فاسدا مثل الوليد بن عقبة الذى ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبى وقاص، ولما ذاعت فضائحه عزله وولى مكانه سعيد بن العاص الذى كان متسلطا مغرورا، يردد دوما أن هذه البلاد «بستان قريش»، فيما عانى الغفارى حياة الضنك فى منفاه حتى وهن ومرض فجلست زوجته بجواره تبكى، فسألها: فيم البكاء؟، فقالت: لأنك تموت فى الصحراء، وليس معى أحد، ولا عندى ثوب أكفنك فيه، فقال: لا تبكى، فإنى سمعت رسول الله يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة، فتشهده ثلة من المؤمنين، ولما مات مر عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فسأل: ما هذا؟ قيل: مات أبو ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله: يرحم الله أباذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ثم صلى عليه، ودفنه.

الثورة فى الإسلام (2)


الغفارى أول ثائر معارض للحكم فى الإسلام
كانت فتنة مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضى الله عنه- أول وأخطر فتنة هزت دولة الإسلام، وأثرت على مستقبلها، ولايزال تأثيرها مستمرا حتى الآن، على المستويين السياسى والعقائدى، لكن الخلافات السياسية التى أدت إلى اغتيال عثمان لم تبدأ فى عهده، لكنها بدأت عقب وفاة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما عرف بـ«يوم السقيفة»، حيث دب الخلاف على البيعة وتسمية من يخلف الرسول، فقد اجتمع عدد من الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة ورشحوا سعد بن عبادة للخلافة، وحين سمع عمر بن الخطاب بهذا الأمر، أخبر أبا بكر وأسرعا إلى السقيفة، وأكدا أحقية المهاجرين فى الخلافة، فاقترح الأنصار أن يكون من المهاجرين أمير، ومن الأنصار أمير، فرفض ابن الخطاب ورشح أبا بكر للخلافة، فيما رشح آخرون الإمام على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ
وعندما تمت البيعة لأبى بكر رضى الإمام على بالأمر، لكن عددا من الصحابة أعلنوا رفضهم البيعة وقاطعوا السقيفة، وكان فى مقدمتهم أبوذر الغفارى، الذى لعب دورا كبيرا فى رفع صوت المعارضة السياسية، خاصة أثناء خلافة عثمان بن عفان، وقد فسر معظم المؤرخين موقف الغفارى باعتباره أول تكريس واضح لفكرة التشيع لأهل البيت، مثلما كان يرى، ومعه بنو هاشم، وعدد من الصحابة مثل عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو وأسامة بن زيد، وآخرون. وحدد بعض المؤرخين عدد من جاهروا بمعارضة بيع أبى بكر فى 12 صحابيا (6 من المهاجرين و6 من الأنصار)،
وبرغم آلاف الصفحات التى كتبت عن حادثة السقيفة فإن أغلب الكتابات لم تعتبرها فتنة، بل أشارت بعض الكتابات الحديثة إليها، باعتبارها نموذجا ناصعا للديمقراطية الإسلامية المبكرة، وعدم الانقياد وراء رأى واحد، لأن المهم أن المعترضين احترموا رأى المؤيدين ومضت بيعة أبى بكر القصيرة فى سلام، وواجهت الدولة الناشئة التحديات الجسيمة التى تعرضت لها بعد وفاة الرسول. ويمكننا الآن أن نفهم من خلال المفاهيم السياسية المعاصرة طبيعة الاختلاف بشأن بيعة أبى بكر، كما يمكننا أن نفهم الاستقرار على خلافته بعد ذلك، فقد كان هناك رأى يرى بقاء الحكم فى قريش، وبالتالى بايعوا أبا بكر الذى كان يؤيد هذه الفكرة بقوله: «إن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لقـريش، لأنهم أوسط العرب نسباً وداراً»، لكن الأنصار من أهل المدينة اعترضوا على ذلك، وأشاروا إلى دورهم فى نصرة الرسول والمهاجرين،
 فيما ظهر رأى ثالث يدعو لاختيار أمير من الأنصار، وآخر من المهاجرين، لكن الاتجاه العام استقر على أبى بكر، استنادا إلى أن الرسول، حين أقعده المرض، اختار أبا بكر لإمامة جموع المسلمين، ومن هنا يبدو أن أول انتقال لسلطة الحكم فى الإسلام تم بشكل سلمى وديمقراطى، وإن كان قد كشف عن بذور التعدد فى الرأى، وبروز تحديات الدولة المدنية، إلى جوار مفاهيم القداسة الدينية وتنامى مشاعر التشيع لآل البيت، وطبعا لم تكن لفظة الشيعة فى عهد الرسول ذات دلالة سياسية، لكنها كانت مقصورة على الحب والولاء للرسول وآل بيته، وكانت الشيعة فى ذلك الوقت أربعة من الصحابة فقط هم: أبوذر الغفارى، وسلمان الفارسى، والمقداد بن الأسود الكندى، وعمار بن ياسر.
هذه الملاحظة تساعدنا على فهم الظروف التى نمت فيها بذور الصدام بين «الدولة المدنية»، التى تنتصر عادة للإجراءات السياسية واعتبارات السلطة لتمكين الحكم، وبين القيم العقائدية المثالية التى تنتصر عادة للقيم المثالية والمفاهيم الدينية والشعورية أيضا، وهذا هو الصدام الذى ظهر بوضوح أثناء خلافة عثمان ـ رضى الله عنه ـ الذى نحلله الآن كخلاف سياسى بين «حاكم وثائر».. الحاكم هو سيدنا عثمان، والثائر هو سيدنا أبوذر ـ رضى الله عنهما ـ واللافت للنظر فعلا أن المؤرخين أهملوا سيرة أبى ذر طوال فترتى خلافة عمر وأبى بكر، ثم أفردوا مساحات لخلافاته مع عثمان وولاته فى عدد من الأمصار خاصة الشام، ويحاول البعض تفسير ذلك بأن أبا ذر كان بعيدا عن مركز الخلافة فى المدينة المنورة، ويشير بعض المصادر إلى وجوده فى الشام. وفى أول إشارة تاريخية عن مكان إقامته يروى البلاذرى أن عثمان سأل يوما فى مجلسه: هل يجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟
فرد كعب الأحبار: لا بأس بذلك .
فقال أبوذر معنفاً: يا بن اليهوديين، أتعلمنا ديننا؟
وهنا قال له عثمان: «ما أكثر أذاك لى، ولأصحابى! الحق بمكتبك».. ويوضح البلاذرى أن «مكتب أبى ذر كان بالشام، وأنه كان يأتى للحج، ويسأل عثمان الإذن له فى مجاورة قبر الرسول، فيأذن له فى ذلك..».
وفى الوقت الذى يستخدم فيه المؤرخون الشيعة هذه الواقعة كدليل على نفى أبى ذر للشام، يستخدمها البلاذرى للتأكيد على أن هذه النقاشات الكلامية الحادة مع الخليفة لم تمنع عثمان من استخدامه فى مهام للدولة، لكنها عادة كانت بعيدا عن مركز الحكم، لكن محامى الفقراء كان يحمل رأيه الجرىء وأفكاره الثورية، ودعوته للتشيع، وينشرها فى أى مكان يحل به، ما أدى إلى صدامات عديدة مع ولاة عثمان وأبرزهم معاوية ا..

الثورة فى الإسلام : أول احتجاج .. أشعله إصرار الخليفة على خروج الجيش (1))


أجمعت الكتابات الرشيدة فى الشرق والغرب على أن رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، هو أبرز قائد ثورى فى التاريخ الإنسانى، لذلك وضعه الكاتب الأمريكى مايكل هارت فى مقدمة أعظم مائة شخصية فى العالم، فقد نجح اليتيم الفقير محمد بن عبدالله فى تأسيس دولة عظيمة لم تغير خريطة العالم فقط، ولكنها غيرت روحه ومفاهيمه، ورغم الذبول الحضارى الذى أصاب هذه الدولة بعد قرون طويلة من وفاة النبى إلا أن أمة الإسلام لاتزال قائمة، ويصنفها المفكر الأمريكى صمويل هانتنجتون فى مقدمة الحضارات التى يحسب لها الغرب كل الحساب.
وبعد وفاة الرسول تمت البيعة للصديق أبى بكر، رضى الله عنه، وفى بداية ولايته قدم مفهومين خطيرين نراهما الآن فى منتهى التناقض، لكن الصديق جمع بينهما بعبقرية نادرة: المفهوم الأول يعتبر درسا ثوريا يحدد العلاقة بين الحاكم والرعية، ويعطى للشعب حق محاسبة قائده، بل وعزله والخروج عليه، حيث قال فى خطبة البيعة: «أيها الناس، إنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى.. الصِّدقُ أمانةٌ، والكذبُ خيانةٌ، والضَّعيف فيكُم قوِىّ عندى حتى أُُريحَ عليه حقَّه، والقوىّ فيكم ضعيفٌ عندى حتَّى آخذ الحقَّ منه (...) أَطِيعُونِى مَا أطَعْتُ الله ورسوله، فإنْ عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم»، وقد كان رد الشعب واضحا أيضاً من خلال العبارة الشهيرة «والله إن أسأت لنقومك بسيفنا هذا» بكل ما تحتمله العبارة من دلالات تجسد أرقى المفاهيم الدستورية عن الشعب باعتباره مصدر السلطات.
 أما المفهوم الثانى الذى قدمه أبوبكر ففسره البعض على أنه «أول شعار سلفى فى الإسلام»، حيث قال فى خطبته وأثناء دفاعه عن تسيير جيش أسامة بن زيد «إنما أنا متبع ولست بمبتدع»، وكان عمر بن الخطاب من بين المنادين بعدم خروج الجيش لضرورات تأمين البلاد فى وقت عصيب، أو تغيير أسامة من القيادة لصغر سنه وعدم خبرته، فوثب أبوبكر وأخذ بلحية عمر، وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرنى أن أعزله، ووقف الصديق رضى الله عنه وأخذ يقول بصوت لا يعرف الخوف (كما ذكر ابن كثير): والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنّ جيش أسامة.
 هكذا يبدو لنا الآن أول خلاف سياسى فى مفهوم إدارة الدولة بين سلفية سيدنا أبى بكر، الذى التزم بحرفية ما أمر به الرسول العظيم، من دون النظر لفتنة الردة العظيمة وانقلاب الكثير من القبائل على الدولة الإسلامية الناشئة، وبين مفهوم عمر المدنى الذى يأخذ فى الاعتبار الآراء العقلانية التى طالب بها عدد من وجهاء القوم، حيث رأوا أن هناك خطرا يحدق بخليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين، وخشوا أن يتخطفهم المشركون بعد إنفاذ جيش أسامة إلى الشام،
لكن الجميع امتثلوا لرأى خليفة الرسول، ولم يحدث انشقاق واضح ربما لحداثة الناس بعهد النبوة، كما فسر بعض المؤرخين، وربما انتظارا لما ستسفر عنه أزمة الردة والتوقف عن دفع الخراج. ومهما تكن طبيعة المشكلة السياسية حينذاك فإن ولاية أبى بكر لم تستمر طويلا، فقد توفى وآلت البيعة للفاروق عمر الذى اهتم بالعدل الاجتماعى وشؤون الفقراء، وسعى لتطوير أحوال بيت المال، لكنه - حسب الكاتب المغتال فرج فودة - أهمل شؤون أمنه الخاص، وهو من بدهيات العمل السياسى فى كل عصر، حيث لم تحُل جهوده البارزة فى تحقيق العدل الاجتماعى والاهتمام بالرعية دون اغتياله بطريقة أدت إلى مفارقة مع مقولة «عدلت فأمنت فنمت ياعمر»، لكن الفاروق سأل عن هوية قاتله، وحمد الله أنه مجوسى ولم يكن مسلما، وهذا يعنى أن عمر بن الخطاب كان يدرك أهمية ألا يقتل على يد مسلم ثائر من رعيته، ربما لأن فى ذلك إشارة إلى أنه أخفق فى إرضاء الرعية. وكان معروفا أن الفاروق يبكى خشية أن يظلم أحدا من رعيته فيحاسبه الله أشد الحساب.
 وبعد وفاة عمر، رضى الله عنه، ذهبت البيعة لثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وفى ولايته جرت الأمور مجرى آخر، واستمرت محاولات تطوير الدولة على المستوى المدنى من حيث تنظيم بيت المال، وضرب عبارة «لا إله إلا الله» على الدينار البيزنطى، حيث لم تسك عملة إسلامية كاملة إلا بعد ذلك فى عهد الخليفة الأموى مروان بن عبدالملك، كما تطورت بعض مؤسسات الدولة التى وضع نواتها ابن الخطاب، لكن المتغير الأبرز فى خلافة عمر كان التوسع فى منح امتيازات لكبار التجار ورجال الدولة من الأمويين، وظهور استثناءات فى تحصيل (الضرائب)، وهو ما أثار الأسئلة والاحتجاجات التى بدأت تتحول إلى فتنة عظيمة، وكان الصحابى الجليل جندب بن جنادة، المعروف باسم أبى ذر الغفارى، فى مقدمة المحتجين، حتى اعتبره المؤرخون أول ثائر ومتظاهر فى الإسلام

»حقيقة عبدالله بن سبأ.. خط فاصل بين «ثورة الصحابة» و«مؤامرة اليهود


عبدالله بن سبأ، ليس مجرد شخص، لكنه أسطورة متكاملة الأركان، ينسب إليه البعض التخطيط والمشاركة فى مؤامرة قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه، والتخطيط للفتنة الكبرى وما تلاها من فتن شطرت دولة الإسلام، حيث لعب دورا كبيرا فى إشعال «موقعة الجمل» بعد أن نجح فى إفشال الصلح بين الإمام على كرم الله وجهه من جانب، والسيدة عائشة والصحابيين الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله (رضوان الله على الجميع) من جانب آخر، كما أسس مذهب السبئية، وهو من أكثر المذاهب تطرفا وتشيعا، وقيل إنه لم يكتف بالدعوة لأحقية على فى الخلافة حسب مقولته المبكرة «لكل نبى وصى، وعلى هو وصى الأمة»، بل نادى بألوهية الإمام على (نستغفر الله)، وذكرت بعض مصادر التاريخ وتراجم الرواة وكتاب السير أن الإمام نفاه إلى المدائن، وأحرق بعض أشياعه الذين اعتنقوا هذه الأفكار الضالة لكى يحاصر الفتنة، وفى معرض أحاديثها عن الدور التخريبى لابن سبأ ذكرت تلك المصادر أن ابن سبأ كان يهوديا من أهل اليمن ادعى الإسلام نفاقاً، وأظهر تشيعا شديدا لآل البيت، لكنه كان يضمر فى نفسه حقدا على الإسلام، فاتخذ من حب الإمام على ستارا لكى ينشر الفتنة والبغضاء بين المسلمين، وبدأ يشهر العداء للسيدة عائشة والخلفاء السابقين على الإمام.
فى المقابل نفت مصادر أخرى وجود هذه الشخصية من الأساس، واستنكر عدد من الكتاب القدامى والمحدثين إمكانية أن يكون لشخص واحد مثل هذا التأثير الكبير على مجرى تاريخ أمة يافعة فتحت ربوع العالم فى ذلك الزمان، وهكذا بدأت فتنة جديدة تدب بين المؤرخين بشأن ابن سبأ، وهل هو شخصية حقيقية أم وهمية، فالمتحمسون لوجوده أكدوا أنه يهودى أسلم فى زمن عثمان، وأخذ يجوب بلاد المسلمين منذ عام 32 هـ، فانتقل من الحجاز، إلى البصرة، ثم الكوفة، وبعدها الشام حتى استقر فى مصر سنة 34 هـ، وخلال إقامته فى الفسطاط جمع حوله أنصاراً ووضع عقيدتى الوصية والرجعة، وحافظ على علاقاته فى العراق، حتى نجح فى نشر السخط، ونظم المسيرات التى أدت فى النهاية إلى مقتل عثمان، وذكر مؤرخون أنه شارك بنفسه فى عملية القتل حيث دخل على الخليفة وخنقه بيديه حتى مالت رأسه، ولما خرج دخل أتباعه ليجهزوا على عثمان، وأشار إليه مؤرخون آخرون بلقب «الموت الأسود»، و«ابن السوداء»، وهى ألقاب ستفيدنا بعد ذلك فى مناقشة قضية وجوده كشخصية حقيقية، حيث أنكر البعض ذلك واعتبروه شخصية وهمية اخترعها البعض ضمن «نظرية المؤامرة» التى تلقى بأسباب كل أزمة على عوامل خارجية، فحتى سنة 1947، كانت الخلافات بشأن شخصية ابن سبأ محدودة وبسيطة، وانحصرت فى كونه من يهود صنعاء أم حمير أم همدان؟، أم من أهل الحيرة فى العراق؟، وبرر البعض هذه الخلافات بأنها نتيجة طبيعية لتنقلات القبائل، فقد يكون أصله من اليمن ثم انتقل مع «والده» إلى العراق.
ولكن من هو والده؟!.. لم نعثر على إجابة تاريخية، لكن وجدنا تبريرات من نوع «إنه ربما بعد أن أسلم خجل من ذكر اسم والده اليهودى»، أما أمه فكانت حبشية سوداء، لذلك سمى بـ«ابن السوداء»، وربما كانت قصة تسميته وغياب نسبه سببا أساسيا جعل الدكتور طه حسين ينسف وجود شخصية ابن سبأ تماما فى التاريخ الإسلامى، وذلك فى كتابه المثير للجدل «الفتنة الكبرى»، وتأثر العميد فى ذلك بالأبحاث التاريخية لأساتذته من المستشرقين مثل فلهاوزن وكايتانى، والتى ذهبت إلى أن هذه الشخصية وهمية ومختلقة، وأن «ابن السوداء» هو فى الواقع الصحابى عمار بن ياسر (الذى كان بعض المتأثرين بالجاهلية ينادونه بهذا اللقب فى إطار معايرته بسواد أمه سمية)، وأكدت هذه الدراسات تطابق بعض المواقف بين ابن سبأ، وابن ياسر، خاصة مواقفه من طلحة والزبير وعائشة وقبلها من عثمان، واستند طه حسين فى رأيه على أن المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة بن سبأ ولم يذكروا عنها شيئا، كما أن المصدر الوحيد عنه هو «سيف بن عمر» ووصفه بأنه «كاذب ووضاع» (أى يضع الروايات من عنده)، وأضاف العميد أن الأمور التى أسندت إلى ابن سبأ تستلزم معجزات خارقة لا يمكن لفرد واحد أن يقوم بها حتى لو كان المسلمون حينذاك فى منتهى البلاهة والسخف.
فى المقابل هاجم المحقق الإسلامى البارز محمود شاكر استنتاجات طه حسين، وقال إنه يسعى لتبرير الدور اليهودى فى التآمر ضد الإسلام، ويريد تشويه كل ما هو عربى، فهو يردد ويؤكد أن «الفتنة عربية» وأنها نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد «العامة العربية» لهؤلاء الأغنياء، وينكر أمر ابن سبأ ودوره فى تنظيم الجماعات الخفية، التى تتستر بالكيد، ثم يقر بأدوار مثل هذه، فى مواضع أخرى من كتابه، ويدافع شاكر عن «سيف بن عمر» مؤكدا أنه من كبار المؤرخين وشيخ شيوخ الطبرى، والبلاذرى، كما أنه مات فى زمن الرشيد، قبل سنة 190 هـ، فلا يقال عنه ولا عن الطبرى إنهما من «الرواة المتأخرين» كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.

موقعة الجمل


لكن لماذا وكيف حدثت هذه المأساة؟ وكيف اصطرعت سيوف الصحابة فى مواجهة بعضهم البعض؟
تقول الروايات التاريخية إن الإمام على بن أبى طالب لم يكن قادراً فور توليه الخلافة على تنفيذ القصاص فى قتلة عثمان مع علمه بأعيانهم، وذلك لأنهم سيطروا على مقاليد الأمور فى المدينة النبوية، وشكلوا قوة مسلحة من الصعب القضاء عليها، وحتى لا تتسع دوائر الفتنة فضل الانتظار لفرصة لا يؤدى فيها القصاص إلى المزيد من إراقة دم المسلمين، وفى المقابل تصاعدت موجات الرفض لسياسة التباطؤ، ولما مضت أربعة أشهر على بيعة «علىّ» دون أن ينفذ القصاص قاد بعض الصحابة وعلى رأسهم طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام مسيرة إلى مكة، حيث التقوا أم المؤمنين عائشة بعد أدائها فريضة الحج، واتفق رأيهم على الخروج إلى البصرة، ليس بغرض القتال، ولكن للمطالبة بالقبض على قتلة عثمان، والقصاص منهم، وقبل انطلاقهم أرسلوا إلى والى البصرة عثمان بن حنيف يخطرونه بذلك، ولما استفسر «ابن حنيف» عن نوايا المسيرة، قالت السيدة عائشة قولتها الشهيرة: إن نريد إلاَّ الإصلاح.
فوقف «ابن حنيف» يستشير الناسَ فى هذا الأمر، واقترح رجل يُسمَّى الأسود بن سَرِيع التضامن مع الجيش القادم من مكة للقصاص من قتلة عثمان، طالما لا يوجد أحد منهم فى البصرة، فرشقه مجهولون بالحجارة اعتراضاً على رأيه، فأدرك ابن حنيف أن لقتلة عثمان أعواناً فى البصرة، وتذكر رأى الخليفة الذى حذر من تجدد إيقاظ الفتنة فى حال التعجل بالضغوط فى هذه القضية، ولهذا رفض دخول جيش المحتجين إلى البصرة، فأبلغوه أنهم سيدخلون بالقوَّة، ووقف طلحة يخطب فى جنود ابن حنيف على مداخل البصرة ويذكَّرهم بدم عثمان، ثم خطب الزبير بن العوام بعده، لكن الجنود لم يتزحزحوا، فقامت السيدة عائشة وخطبت فيهم خطبة مؤثرة رقَّقت قلوبهم لدم عثمان، فانقسم جيش ابن حنيف، وانضم نصفه لجانب السيدة عائشة، وشعر الوالى بخطر الفتنة فطلب مهلة لاستشارة الخليفة فى أمر السماح لهم بدخول البصرة، وتوجس قتلة عثمان من أمر الصلح، وخرج حكيم بن جبلة من مكمنه، وكان أحد قتلة عثمان المطلوبين للقصاص، وبدأ القتال مع جيش السيدة عائشة، وانتهت المعركة بمقتله، وأُسر ابن حنيف، وكانت المعلومات عن مسيرة طلحة والزبير قد وصلت للخليفة فخرج من المدينة قاصداً البصرة ومعه قوة صغيرة أقل من ألف مقاتل، وعند منطقة الربذة لقى عبدالله بن سلام فأخذ بعنان فرسه وقال له: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً»، وكتب على يخاطب أهل الكوفة: «.. كونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، وأيدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا»، ثم وقف يخطب فى قواته بالربذة قائلا: «إن الله أعزنا بالإسلام ورفعنا به، وجعلنا به إخوانا (...) حتى أصيب هذا الرجل (يقصد مقتل عثمان) بأيدى قوم نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا وإن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن»، وحذر من تفرق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ثم اختتم حديثه قائلا: «فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن حكما وإماما».
وبعدها سأله ابن أبى رفاعة: يا أمير المؤمنين، أى شىءٍ تريد، وأين تذهب بنا؟
فقال له: أريد وأنوى الإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم بعذرهم، ونعطهم الحقَّ ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم ما تركونا.
قال: فإن لم يتركونا؟
قال: امتنعنا منهم.. أى بالسيف.
قال: نعم إذًا.. وخرج بقومه مع الجيش.
وعند منطقة ذى قار جنوب العراق جاء عثمان بن حنيف بعد إطلاقه من الأسر، وأخبر الخليفة بما حدث، فأرسل ابنه الحسن، والقعقاع بن عمرو، وعمار بن ياسر رضى الله عنهم جميعًا إلى الكوفة لحشد الجنود بغرض تمكين طلبه للصلح، وأقام علىّ بذى قار ينتظر الحشود، ويتلمس الردود لوأد الفتنة، ويقول ابن كثير إن الإمام أقام الليل يصلى ويدعو الله لإزاحة الغمة وبيان الرؤية للصحابيين المتلازمين طلحة والزبير، فكان يقول: اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما فى أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا (فى أمرهما هذا)، فماذا فعل طلحة والزبير، وكيف سارت مسارات الفتنة؟ا

دولة الشيعة الإسماعيلية بمصر


الإمام الإسماعيلى «أغا خان» المدفون بأسوان منذ سنة 1957، فى ذلك المقام البديع الذى ظل حتى وقت قريب مزاراً سياحياً، لماذا جاء ليُدفن فى مصر؟ وما دلالة هذا اللقب: أغاخان؟ وكيف سميت أول دولة شيعية، فى مصر، بالدولة الفاطمية؟.. سوف نسعى فيما يلى للإجابة عن الأسئلة، مع الالتزام بقدر المستطاع بتبسيط الموضوع، وبالابتعاد عن الأسلوب، الذى يشكو كثيرٌ من القراء والأصدقاء من صعوبته، خصوصاً أننى وعدت صديقى «على منتصر» أن أُتِمَّ مقالات هذه السباعية، بأيسر لفظ وأقرب معنى. وعلى ذلك أقول:
كان ياما كان، شيخٌ جليل يتفق على مكانته الدينية والروحية معظم المسلمين، اسمه الإمام «جعفر الصادق»، الذى هو من (أسباط) النبى. الأسباط هم أبناء البنت، وأبناء الابن هم الأحفاد. وقد اعتاد المسلمون تسمية أسباط النبى من السيدة «فاطمة» وزوجها الإمام «على بن أبى طالب» بالأشراف، وبآل البيت. وكان جعفر الصادق هو إمام الجيل الخامس من أشراف بيت النبوة، لأنه جعفر الصادق (5) ابن محمد الباقر (4) ابن على زين العابدين (3) ابن الإمام الحسين (2) ابن الإمام على بن أبى طالب (1).. وقد أعلن جعفر الصادق أن الإمام من بعده، سوف يكون ابنه الأكبر «إسماعيل» ولكن هذا الابن، فيما يقال، كان يشرب الخمر ولا يلتزم بالسمات التى يستمسك بها أئمة آل البيت. وقد توفى فى حياة أبيه، فصارت هناك مشكلة فى (توريث) الإمامة، لأن الشيعة فى ذلك الوقت كانوا يتأولون الآية القرآنية «وجعلها كلمةً باقيةً فى عَقِبه لعلهم يرجعون» بحيث يصير المفهوم منها، أن الإمامة وراثية فى الأعقاب، أى فى الابن من بعد أبيه. وهم يعتقدون أيضاً، أن الإمام معصومٌ من الخطأ، وبالتالى فإذا نصَّ على إمامة خليفته لا يجوز الرجوع عن هذا النص.. ولكن (إسماعيل)، المنصوص عليه، مات، ولم يكن أبوه راضياً عنه حتى إنه احتفل بموته، وفرح بوفاته، وعرض جثته على شهود، كتبوا محضراً بالواقعة، وأرسلوه إلى الخليفة العباسى الذى فرح بدوره بوفاة «إسماعيل»، على اعتبار أن أئمة الشيعة كانوا يسعون إلى السلطة السياسية، وكان أبناء عمومتهم (العباسيون) يبالغون فى اضطهادهم، مثلما كان يفعل (الأمويون) من قبلهم.
طيب، ما العمل وقد مات الإمام المنصوص عليه، بصرف النظر عن مناسبته أصلاً للإمامة؟ الذى حدث أن والده «جعفر الصادق» نصَّ على إمامة ابنه الأصغر (موسى الكاظم)، فارتضى بذلك جماعة من الشيعة، هم الذين سوف يُعرفون لاحقاً باسم «الإثنى عشرية» ولم يقبل ذلك جماعةٌ أخرى، قالت إن الأحق بالإمامة بعد إسماعيل (المتوفى) هو ابنه: محمد بن إسماعيل.. والذى يعد عندهم الإمام السابع، ولذلك عُرفوا باسم (السبعية) وباسم (الإسماعيلية)، وقد زعم جماعة منهم، أن موت «إسماعيل» كان مجرد مسرحية أراد بها «الإمام جعفر الصادق» أن يخفى ولده عن عيون الخلافة العباسية، ويحفظه من بطشهم.. وزعم جماعة آخرون منهم، أنهم شاهدوا الإمام «إسماعيل» بعد مسرحية موته، يعيش فى البصرة وفى بعض نواحى فارس (= إيران).
ونظراً للظروف الصعبة التى كان يمر بها التشيع فى تلك الفترة، وفى فترات أخرى كثيرة، فقد اتخذت الدعوة الإسماعيلية طابع السرية، وقام الدعاة فى هذا الوقت المسمى (طور الدعوة السرية) بالكثير من الجهود التى سعت لإقامة دولة بديلة، على رأسها الإمام المستور (= المختفى).. وكان من هؤلاء الدعاة السريين، الجماعة التى تعرف باسم (القرامطة)، وهى التى تحدثنا عنها فى مقالة الأربعاء الماضى، التى لم يهتم بها كثيرون لانشغال الناس فى بَرِّ مصر بمحاكمة الرئيس السابق (العلنية) فى اليوم ذاته.
المهم، أن الجماعة الإسماعيلية التى انشقت عن بقية الشيعة، ظلت تحاول إقامة دولة لها بالمعنى السياسى، مدعومة بجهود (الدعاة) حتى استطاعت تأسيس دولة «جنينية» فى ساحل إفريقية (=تونس) وما لبثت أن صارت دولة قوية فى مصر، سُميت الدولة الفاطمية.. لماذا الفاطمية؟
كان الأئمة الحاكمون فى تونس، منذ ابتداء دولتهم على يد «عبيد الله المهدى» يسمون أنفسهم الفاطميين، كأنهم بذلك يذكِّرون المسلمين بأصلهم الشريف، ويؤكِّدون انتسابهم إلى السيدة فاطمة التى تحظى بتقدير أهل الإسلام على اختلافهم. ولكن أعداء الفاطميين، كانوا يسمونهم (العبيديين) نسبة إلى عُبيدالله المهدى، ويؤكِّدون أنهم ليسوا من آل البيت أصلاً، ويشكِّكون فى نسب عبيدالله.. ومن هنا نفهم خلفيات الواقعة المشهورة التى جرت بمصر سنة 363 هجرية، حين جاء «المعز لدين الله» ليحكم النواحى المصرية، فذهب أعيان المصريين، ومعهم نقيب الأشراف بمصر، وسألوا «المعز» عن نسبه وحسبه، فنثر عليهم دنانير ذهبية وقال: هذا نسبى! ثم سحب نصف سيفه من الغمد وهو يقول: وهذا حسبى. وهى الطريقة ذاتها التى يستعملها اليوم المجلس العسكرى الذى يدير مصر، واستعملها من قبل الجميع «معاوية بن أبى سفيان» فيما يُعرف بشعرة معاوية: لو كان بينى وبين الناس شعرة ما تركتها تنقطع، فإذا شدُّوا أرخيت، وإن أرخوا شددتُ.. (هذه ليست دعوة لمواصلة الاعتصام بميدان التحرير حتى تتحقق مطالب ثورة يناير، فقد تهتكت الاعتصامات وأنهكت البلاد).
المهم، أن «المعز لدين الله» ومن بعده ابنه «العزيز بالله» كانا من فضلاء الرجال، وسارا فى مصر بسيرة حسنة، وحفظا البلاد من محاولات القرامطة الاستيلاء على الحكم.. لماذا تسعى الجماعات الدينية دوماً إلى امتلاك كرسى الحكم والسيطرة على السلطة السياسية الدنيوية، مع أن الحديث الشريف يقول: الدنيا جيفة وطلابها كلاب؟ وما معنى الدعوة التى أطلقها «الصوفية» للتظاهر يوم الجمعة، لإثبات أن عددهم اليوم بمصر هو (خمسة عشر مليوناً!) بينما التصوف الذى أعرفه، لا يعرف اللعب السياسى؟
ما علينا، نعود إلى الزمن الفاطمى (= الشيعى الإسماعيلى) الذى اضطرب فى أواخر القرن الرابع الهجرى، وبدايات القرن الخامس، مع التفانين العجيبة والحكمة الممزوجة بالهوس والجنان الرسمى (الجنون الصريح) الذى عرفناه فى فترة حكم «الحاكم بأمر الله» الذى كاد فى نهاياته يودى بالبلاد والعباد فى موارد التهلكة، لولا تداركت الأمر أخت الحاكم بأمر الله (سِتّ الملك) وقامت بعملية إنقاذ على طريقة توم كروز فى أفلامه «مهمة مستحيلة» لكنها نجحت، وأرست الأمور بيد ابن أخيها الذى كان قد انتزعته من أبيه (الحاكم بأمر الله) وهو طفل صغير، وما لبثت أن جعلته حاكماً لمصر بعد اختفاء والده سنة 411 هجرية، وأعطته اسم (الظاهر لإعزاز دين الله) وكان عمره آنذاك ستة عشر عاماً.
وفى أواخر زمن «الحاكم» ظهرت بمصر بدع كثيرة ومعتقدات عجيبة، منها الجماعة التى سوف تُعرف لاحقاً باسم (الحشاشين) والجماعة التى تُعرف اليوم باسم (الدروز) وكلاهما مصرى المنشأ، وكلاهما متشدِّد.. ولسوف نتوقف عندهما فى المقالتين القادمتين.
وقد استمرت الدولة الشيعية الإسماعيلية (الفاطمية) فى حكم مصر من سنة 358 هجرية حتى أسقطها سنة 567 هـ صلاح الدين الأيوبى، الذى تنمَّس على الخلافة الفاطمية وصار وزيراً لهم، ثم انقلب عليهم وعلى «نور الدين محمود» وأسس الدولة المعروفة فى تاريخ مصر والشام بالدولة الأيوبية، التى ابتدأها بجريمة ضد الإنسانية حين عزل الرجال (الفاطميين) عن النساء (الفاطميات) ومنع تزاوجهم مع بعضهم، أو مع الآخرين، حتى انقرضوا بالوفاة ولم يبق منهم أحد. وبالطبع، فالمقررات الدراسية عندنا لا تذكر هذا الأمر إطلاقاً، وإنما تحتفى بصلاح الدين الأيوبى لأنه حَرَّر القدس من أيدى الصليبيين سنة 583 هـ هجرية، ولا تقول أن أخاه (العادل) عاد وسلَّمها لهم سنة 628 هجرية.
■ ■ ■
وبعد انطواء صفحة الزمن الشيعى الإسماعيلى (الفاطمى) من تاريخ مصر، بقيت ببلادنا آثار كثيرة تدل عليه، وبقيت منه فى التراث العربى/ الإسلامى عموماً آثار أخرى. ومن أشهر ما نعرفه اليوم من بقايا ذاك الزمن الجامعُ الأزهر الذى ما لبث أن صار منبراً لمذهب السنة، مع أنه كان فى الأصل منبراً للدعوة الشيعية الإسماعيلية. ومن ذلك أيضاً، ما نقوم به اليوم من احتفالات دينية واحتفاء بفانوس رمضان (الذى لا يعرفه إلا المصريون) وحفاوة كبيرة بآل البيت المدفونين بمصر، وعلى رأسهم الإمام الحسين الذى يشكك كثير من المؤرخين فى أنه مدفون أصلاً بمصر، لكن هذه الشكوك لا تعنى أى شىء بالنسبة للاعتقاد العام السائد بمصر.
ومن الآثار التى بقيت من ذاك الزمان، فى التراث العربى/ الإسلامى، عموماً، بل فى التراث الإنسانى؛ الموسوعة البديعة التى تعرف بعنوان (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا) وهى كتاب ضخم يقع فى أربعة مجلدات، ربما نعود إليه فى «سباعية» خاصة.
لكن السلسلة الإسماعيلية استمرت فى أصلاب (النـزارية) الذين صاروا هم «الأئمة» واحتفظوا فى إيران وقلب آسيا بمكانة روحية خاصة، وبالاسم ذاته «الإسماعيلية» ثم توارثوا هذه الزعامة الروحية جيلاً بعد جيل، حتى اشتهر أمرهم من جديد (فى القرن التاسع عشر الميلادى) مع إمامهم المولود بإيران سنة 1219 هجرية، واسمه: حسن على بن خليل على، ولقبه: أغا خان الأول.. وهو لقب ملكى تشريفى، منحه له شاه إيران «فتح على القاجارى» الذى تزوج أغا خان، أخته الأميرة «سرر جهان» ولكن الخلاف سرعان ما دبَّ فى البلاد بسبب ازدياد الزعامة الدينية لأغا خان، والتفاف الأتباع من حوله، فحظر عليه الشاه الإيرانى العمل بالسياسة، خوفاً على العرش، ولكن الصدامات حدثت بين أتباع هذا وذاك، وانتهى الأمر بأغا خان الأول إلى النـزوح إلى الهند. وفى أيامه هاج النصيرية (العلويون) فى سوريا، على الإسماعيلية الموجودين هناك، وأخرجوهم من ديارهم. وهاجم السُّنة قلاع الإسماعيلية فى لبنان، وأعدموا كبارهم شنقاً. فتقلص الوجود الإسماعيلى فى البلاد العربية وصار مختصاً بالهند.
ثم تولى الزعامة الروحية «أغا خان الثانى» الذى كثر أتباعه وصاروا أغنياء بسبب العمل فى التجارة، واستطاعوا مساعدة الإسماعيلية فى سوريا بالتوسط من أجلهم لدى السلطان العثمانى الذى سمح للإسماعيلية بالسكنى فى سوريا، وأعفاهم من الجندية.. وفى كراتشى الباكستانية سنة 1877 ولد أغا خان الثالث، واسمه الأصلى: سلطان محمد شاه على الحسينى. وفى زمانه انتعشت الجماعة وازدادت ثراءً والتفافاً حول إمامهم الذى صار يلعب دوراً سياسياً، ويجوب العالم، ويتزوج بملكة جمال فرنسا (تزوج أربع مرات) وقد احتفل أتباعه عام 1935 ببلوغه السنة الخمسين من إمامته لهم بأن تبرعوا له بوزنه ذهباً (اليوبيل الذهبى) وبعدها بأحد عشر عاماً (سنة 1946) تبرعوا له بمقدار وزنه من الماس (اليوبيل الماسى) وفى سنة 1954 وزنوه بالبلاتين وأهدوا الوزن إليه.. ولا نعرف ما الذى كانوا سيفعلونه، لو أتم إمامهم من عمره مائة عام؟
توفى سلطان محمد شاه (أغا خان الثالث) سنة 1957 بسويسرا، ونقل جثمانه إلى أسوان ليدفن فيه، حسب وصيته التى يقول الطيبون من المصريين إنه اختارها مدفناً لرفاته، لأنه كان قد جاء إليها للاستشفاء، ونصحه المعالجون بأن يدفن نفسه فى الرمال، فبرأ وأحب المكان وبنى فيه مقبرته.. بينما الرأى عندى، أن مصر كانت تمثل عنده الزمن الذهبى للجماعة الإسماعيلية، التى عاشت أزهى عصورها فى زمن أجداده المعروفين باسم (الفاطميين) الذين فتحوا بلاد النوبة فصارت فى القرن الرابع الهجرى، فقط، أرضاً إسلامية بعدما استعصت طويلاً على الفاتحين بسبب تمسك النوبيين بخصوصيتهم وديانتهم التى كانت المسيحية.. العجيب أن أهل النوبة صاروا من بعد ذلك، كلهم، مسلمين! حتى إنه لا يوجد مسيحى واحد نوبى، سواء من جماعة الفجكى والمتوكى (النوبة المصريين) أو من جماعة المحسن (نوبة السودان) وكأن المسيحية لم تكن يوماً ديانة لجميع أجدادهم، لفترة امتدت لمئات السنين.
وتولَّى من بعد أغا خان الثالث، ابنه (كريم) الذى صار لقبه «أغا خان الرابع» وهو من أشهر الشخصيات فى العالم منذ توليه (الإمامة الإسماعيلية) ومن أغناهم وأكثرهم نشاطاً وأناقة وحباً للحياة الراقية.. وأعتقد من جانبى، وقد أكون مخطئاً، أن الفترة القادمة من حياة مصر سوف تشهد مزيداً من الإقبال (الإسماعيلى) الذى بدأت شواهده تلوح فى آخر جمعة اعتصام فى ميدان التحرير (قبل محاكمة مبارك) حيث نُصبت فى الميدان عدة منصات للثوار المصريين، كان من بينها منصَّة للشيعة.
الإسلام هو الحل، الديمقراطية هى الحلَّ، المجلس العسكرى هو الحلّ، الحرية هى الحلّ، الانتخابات هى الحلّ، السلفية هى الحلّ، الكنيسة هى الحلّ، الأزهر هو الحلّ، العلمانية هى الحلّ، الليبرالية هى الحلّ، المطالب الفئوية هى الحلّ، الأرانب والملوخية هى الحلّ.. اللهم ارحمنى من هذه الحلول جميعها، حتى نحدِّد أولاً ما هى المشكلة التى نبحث لها عن حلّ.