mercredi 30 mars 2011

كيف لا أثور ...

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا محمد
النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

اخواني في منتدى تونيزيسات السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

أما بعد

نحن مسلمون عرب وخاصة نحن تونسيون ولنا ميزتنا الدينية التي نختص بها
ولنا علمائنا الأفاضل الذين نعتز بهم
صحيح أن الطواغيت الذين حكموا هذه البلاد وخاصة المخلوع بن علي
حرصوا كل الحرص على تجفيف منابيع العلم ومنابيع الدين وخاصة تهميش دور جامع الزيتونة المعمور
في حياة التونسيين
وهي من أشد الأخطاء التى وقع فيها
حيث اتجه شباب هذه الأمة المتدين فطريا الى البحث على دينه لتصحيح حياته
ولم يجد ضالته إلا في القنوات الفضائية أو الكتب والأقراص المضغوطة التي تروج لفكر واحد لا يقبل الآخر
بل ويكفر الآخر ومعروف مصدرها
وهو حسب ظنّي لا يتماشى مع فكرنا وتقاليدنا التونسية البحته ذات الطابع المالكي والذي يميل إلى النهج التصوفي في بعض الأحيان الذي لم تبقى منه إلا القشور التي تحتاج إلى تصحيح يجب أن يقوم بع علماء تونس
لا أن نأتي بأفكار وقوالب من بعض البلدان التي لها فكر ظلامي

أنا انسان متدين...
وليس كما يظن البعض أنني علماني أو لائكي...
تربيت على مناهج معينة قد نتفق عليها وقد لا نتفق...
تربيت بين المساجد منذ أن كان عمري 4سنوات إلى أن اصبحت الآن 40سنة...

عندما يقع احتلال مسجدي بأناس يمنعونني من قراءة الفاتحة بعد الصلاة...حتى ولو سرا عندما امد يدي...
يمنعونني من قراءة الفاتحة على الميت...
يمنعونني من صلاة الظهر الثاني يوم الجمعة مع العلم أنني أخرج من العمل الواحدة ظهرا...
لا يتركوا لى الوقت لدعاء القنوت في صلاة الصبح ...
يمنعونني من الإحتفال بمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى ولو بسرد سيرته في المسجد ...
وغيرها وغيرها ما لا أتذكر... مع العلم أنها مسائل اختلافية عند العلماء...وفي ذلك رحمة للأمة...
وفوق هذا أجد هذا المنتدي قد احتل بفكرهم ...
فهم يستدلون بعلمائهم الذين هم موضع شك بالنسبة لي

فكيف لا أثور ...
فهم الغزاة بالنسبة لي بفكرهم...
ومن حقنا الدفاع عن صبغتنا وأصلناوتراثنا...
وأجد نفسي مضطرا للكتابة والرد على أفكارهم...
إما بما أعطاني الله من فكر فلست بعالم في الدين...
أو حتى ولو بالنسخ والإلصاق من منتديات أخرى...
يا رسول الله هل خرجنا من دكتارورية بن علي إلى دكتارورية هؤلاء...
والسلام عليكم ...

lundi 21 mars 2011

مختصر قصة الفتنة

الفتنة ومكانة الصحابة

للصحابة في قلوب المسلمين مكانة سامية، لا يفوقها إلا مكانة النبي r؛ وما ذلك إلا لما بذلوه من أجل نصرة الرسول r، ونشر الدين، وما قدَّموه من تضحيات جسيمة بالمال والوقت والنفس لأجل رفعة راية الإسلام.

وقد جعل الله U للصحابة مكانة كبيرة بين البشر؛ فقد أثنى عليهم قائلاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

ولهذا يُجِلُّ المسلمون الصحابة إجلالاً كبيرًا، ولا يقبلون أن يتطاول أحد عليهم ولو بلفظ.

ولا يعني هذا أن الصحابة معصومون من الخطأ؛ فقد قال رسول الله r: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"[1]. ولكن مكانة الصحابة تقتضي ألاّ يتجاوز أحد من المسلمين في حقهم، وإلا كان ذلك علامة على نقص الدين في نفسه؛ ولذا قال الإمام مالك رحمه اللهr، فلم يمكنهم ذلك؛ فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين، وذلك أنه ما كان منهم رجل إلا ينصر الله ورسوله r، ويذبُّ عن رسول الله rr)"[2]. واصفًا حال مبغضي الصحابة، ومبينًا معتقدهم: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي بنفسه وماله، ويعينه على إظهار دين الله، وإعلاء كلمته، وتبليغ رسالاته وقت الحاجة، وهو حينئذٍ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته، ومعلوم أن رجلاً لو عمل به بعض الناس نحو هذا، ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه، وعدَّ ذلك أذى له (أي للرسول

من هنا صارت دراسة فترة الفتنة الكبرى -التي بدأت بعد ست سنوات من حكم ذي النورين عثمان بن عفان t، واستمرت فترة حكم أمير المؤمنين علي t- بشكل محايد منصف واجبة؛ لكي نذبَّ الأذى عن صحابة رسول الله r الذين تمالأ عليهم المنافقون وأصحاب الأهواء ليطعنوا فيهم مستغلين ما وقع من أحداث، فتظاهروا بالدفاع عن طرف، والهجوم على طرف آخر؛ ليتوصلوا إلى غرضهم الخبيث بالإساءة للطرفين، ومن ورائهم رسولهم ونبيهم الذي جاءهم بالحق من عند الله I.

التغير والمستجدات

منذ نهاية عصر الفاروق عمر t بدت ملامح التغير في المجتمع المسلم واضحة للعيان؛ فقد اتسعت الفتوح، وفاض المال بأيدي المسلمين الذين كثروا، ودخل فيهم عناصر جديدة كثيرة من أهل البلاد المفتوحة مثَّلت الأغلبية خلال سنوات معدودة، وكانت هذه الغالبية منها من كان مخلصًا لله U في إسلامه، ومنها من كان موتورًا يريد الانتقام من الإسلام الذي هدم ديانته، وقضى على دولته، كما كان حال بعض اليهود والفُرس، كما ساد الميل إلى الدنيا في نفوس كثير من المسلمين؛ فركن بعضهم إلى الدنيا وزينتها.

وما كانت تلك المستجدات لتمر على عبقري ملهَم كعمر بن الخطاب t، الذي تعب من معاناته مع هؤلاء الداخلين حديثًا، ومع المتآمرين، ومع المائلين للدنيا؛ فقد مدَّ يديه إلى السماء، ودعا الله I قائلاً: "اللهم كبُرَت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفرط"[3].

تغيرت الأحوال إذن، وأسوأ من ذلك تغيُّر النفوس، مما جعل أمير المؤمنين عثمان t في مأزق؛ فقد حكم قومًا غير من كان عمر t يحكمهم في بداية خلافته؛ فقد كان عمر t يحكم الصحابة، أمَّا عثمان t فكان أغلب رعيته ممن لم يروا رسول الله r، ولم يتأدَّبوا بأدبه، ومنهم من غرَّته الدنيا، واستولت على قلبه، وغرق في بحار أموال الفتوحات، وكان لا بد من حدوث الفتنة؛ فقد أخبر بها رسول الله r، فعن حذيفة قال: "كنا جلوسًا عند عمر t، فقال: أيُّكم يحفظ قول رسول الله r في الفتنة؟ قلت: أنا، كما قاله. قال: إنك عليه -أو عليها- لجريء. قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي. قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر. قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا. قال: أيُكسَر أم يُفتح؟ قال: يكسر. قال: إذن لا يغلق أبدًا. قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نَعَمْ، كما أن دون الغدِ الليلةَ إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط. فَهِبْنَا أن نسأل حذيفة، فأمَرْنَا مسروقًا فسأله، فقال: الباب عمر[4].

بداية الفتنة

إذن كان الصحابة y يعلمون أن استشهاد عمر t هو فتحٌ لِباب الفتنة؛ لذا كان أمير المؤمنين عثمان t حريصًا على مداراة من يخالفونه، ويُكثرون من الشكوى من أمرائهم ظلمًا وعدوانًا، وحتى لما كثرت إساءات المارقين، وأشار ولاة عثمان عليه بأخذهم بالشدة، قال لهم: "والله إن رَحَى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها. كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها"[5].

افترى أهل الفتنة تصرفات باطلة على أمير المؤمنين عثمان t، وأخذوا يطعنون في وُلاته، وهو صابر عليهم، ولكن كان هناك من يحرِّك الفتنة بمهارة وتؤدة ومثابرة؛ فقد كان هناك عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف بابن السوداء، الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والعداوة للإسلام وأهله.

توجّه ذلك الرجل إلى البصرة التي كانت تحت إمارة عبد الله بن عامر الذي بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة العبدي، وكان عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، هو الرجل النازل عليه، واجتمع إليه نفر، فطرح إليهم ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا منه. فأرسل إليهم ابن عامر فسأله: من أنت؟
فقال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك.
فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأُخرج منها، فقصد مصر فاستقر بها وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، وتختلف الرجال بينهم[6].

وكان ابن سبأ يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السر لأهل البيت، ويقول: إن محمدًا يرجع كما يرجع عيسى. وعنه أخذ ذلك أهل الرَّجْعَةِ، وإن عليًّا وصيُّ رسول الله r حيث لم يجز وصيته، وإن عثمان أخذ الأمر بغير حق، ويحرض الناس على القيام في ذلك، والطعن على الأمراء[7].

وسواءٌ كان ابن سبأ هو الذي قام بهذا، أو أنه شخصية خيالية كما يرى عدد من الباحثين؛ فإن هناك من كان يقوم بهذا الدور، سواء كان فردًا أو جماعة.

المتمردون في المدينة

ظلَّت الرسائل تُتَبادَل بين أهل الفتنة في مصر والبصرة والكوفة، يحرِّض بعضهم بعضًا فيها على التشنيع على ولاة عثمان t، ثم على عثمان نفسه حتى وصل الأمر إلى الاتِّعاد على قدوم المدينة في موسم الحَجِّ، وإعلان العصيان والخروج على أمير المؤمنين t.

كان أمير المؤمنين قد علم بما خططه أهل الفتنة من رجلين شهدا تدبيرهم ومكرهم؛ "فأرسل إلى الكوفيين والبصريين، ونادى: الصلاة جامعة! فأقبل الرجلان، وشهدا بما علما؛ فقال المسلمون جميعًا: اقتلهم؛ فإن رسول الله r قال: "مَن دعا إلى نفسه، أو إلى أحد وعلى الناس إمام، فعليه لعنة الله فاقتلوه". وقال عمر بن الخطاب: لا أُحِلّ لكم إلا ما قتلتموه، وأنا شريككم. فقال عثمان: بل نعفو ونقبل، ونبصرهم بجهدنا، ولا نحادّ أحدًا حتى يركب حدًّا، أو يُبدِي كفرًا. إن هؤلاء ذكروا أمورًا قد علموا منها مثل الذي علمتم، إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبها عليَّ عند من لا يعلم"[8].

وبعد ذلك أخذ الخليفة يرد على كل ما زعموه وافتروه، والمهاجرون والأنصار يؤيدونه في كل ما يقول؛ حتى إذا انتهى من ردِّه، وقد أفحم أهل الفتنة، "أبى المسلمون إلا قتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم، فذهبوا ورجعوا إلى بلادهم، مع اتفاق بينهم على أن يعودوا وسط الحجاج لاقتحام المدينة؛ فتكاتبوا وقالوا: موعدكم ضواحي المدينة في شوال" من عام 35هـ[9].

فوجِئ عثمان t والمسلمون معه بأهل الفتنة يعيدون احتلال المدينة بشكل منظَّم تم إعداده مسبقًا، ويحاصرون دار الخليفة، ويواجهونه بما افتروه عليه، وكان ممن شارك في الفتنة كثير من الجُهَّال الذين غرَّر بهم أهل الفتنة، واستخدموهم في مخططهم الخبيث.

وقف هؤلاء وأولئك أمام دار أمير المؤمنين يحاصرونها، ويُعدِّدون عليه اتهاماتهم؛ فردَّ عليهم t كل اتهام باطل بما يدحضه، ولكن الفتنة والعناد قد تحكما فيهم، وأخذ رءوس الفتنة يقطعون كل السُّبل أمام إخمادها؛ فخيروه t بين عزل نفسه أو قتله، فرفض t؛ لأن النبي r قد بشَّره بالشهادة؛ فعن أبي موسى الأشعري t أن رسول الله r دخل عند بئر أريس، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟
فقال: عثمان بن عفان.
فقلت: على رِسْلِكَ. فجئت إلى رسول الله r، فأخبرته، فقال: "ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ"[10].

كما أنَّ النبي r قد نهاه في حياته عن خلع نفسه من الخلافة التي تأتيه؛ فعن عائشة t أن رسول الله r دعا عثمان فناجاه فأطال، وإني لم أفهم من قوله يومئذٍ إلا أني سمعته يقول له: ولا تنزعَنَّ قميص الله الذي قمَّصك"[11].

لذا لما طلب منه أهل الفتنة عزل عُمَّاله وردَّ مظالمهم، وقالوا: والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن. أبى عليهم وقال: لا أنزع سربالاً سربلنيه الله.

فحصروه واشتد الحصار عليه، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير فحضروا، فأشرف عليهم فقال: يا أيها الناس، اجلسوا. فجلسوا المحارب والمسالم. فقال لهم: يا أهل المدينة، أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي. ثم قال: أنشدكم بالله، هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم، ويجمعكم على خيركم؟
أتقولون: إن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه؟
أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبالِ من وَلِي والدين لم يتفرق أهله يومئذ؟ أم تقولون: لم يكن أخذٌ عن مشورة إنما كان مكابرة، فوكل الله الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة؟ أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري![12].

وأخذ عثمان t يوضح لهم حرمة ما ينتوونه من قتله؛ فقال:
وأنشدكم بالله أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه الله لي ما يوجب على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها! فمهلاً لا تقتلوني؛ فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إيمانه، أو قتل نفسًا بغير حق؛ فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدًا[13].

ثم لزم عثمان t الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا الحسن بن علي وابن عباس ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وأشباهًا لهم، واجتمع إليه ناس كثير، فكانت مدة الحصار أربعين يومًا، فلما مضت ثماني عشرة ليلة قدم ركبان من الأمصار فأخبروا بخبر من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء.

فأرسل عثمان إلى عليٍّ سرًّا وإلى طلحة والزبير وأزواج النبي r، إنهم قد منعوني الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا. فكان أوَّلهم إجابة علي، وأم حبيبة زوج النبي r، فجاء عليٌّ في الغلس فقال: يا أيها الناس، إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي!

فقالوا: لا والله ولا نعمة عين! فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت ورجعت، وجاءت أم حبيبة على بغلةٍ لها مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلاّ تهلك أموال الأيتام والأرامل. فقالوا: كاذبة! وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها[14].

إنَّ تجرؤ هؤلاء المارقين على أم المؤمنين أم حبيبة؛ لَيبين ما وصلوا إليه من خروج عن الدين، واستهانة بحرم رسول الله r، بل وعداوة للرسول r نفسه.

ثم بدأ ذو النورين t يُذَكِّرهم بسابقته في الإسلام، ومكانته من رسول الله r، وتضحياته من أجل الدين؛ فقال:
أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها، فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين؟
قالوا: نعم.
قال: فلِمَ تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد؟
قيل: نعم.
قال: فهل علمتم أن أحدًا مُنع أن يصلي فيه قبلي؟ ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن النبي r قال عني كذا وكذا؟ أشياء في شأنه.
ففشا النهي في الناس يقولون: مهلاً عن أمير المؤمنين.
فقام الأشتر فقال: لعلَّه مكر به وبكم[15].

والأشتر هذا سيكون من قاتلي الإمام المظلوم عثمان بن عفان t؛ لذا نراه هنا يحاول تخذيل مَن تراجعوا عن اتهاماتهم لأمير المؤمنين.

مقتل عثمان وفتنة أبدًا

سارت الأحداث في الاتجاه الذي خطط له أهل الفتنة؛ فشدَّدوا الحصار على دار أمير المؤمنين، وقد جاء عدد من الصحابة وأبنائهم يدافعون عنه، ولكنه أمرهم بالانصراف وترك الدفاع عنه؛ فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه. ثم قال: قم يابن عمر -وعلى ابن عمر سيفه متقلدًا- فأخبر به الناس. فخرج ابن عمر والحسن بن علي. وجاء زيد بن ثابت فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله، مرتين. قال عثمان: لا حاجة بي في ذلك، كُفُّوا.
وقال له أبو هريرة: اليوم طاب الضرب معك. قال: عزمت عليك لتخرجَنَّ.
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده، فإنه جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم، ولزوم بيوتهم.
فقال له ابن الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا لا نبرح. ففتح عثمان الباب، ودخلوا عليه في أصح الأقوال[16]؛ وذلك يوم الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35هـ[17].

قُتِل الشهيد عثمان بن عفان t، وكانت صدمة لم يتوقعها المسلمون، وطعنة غدر أُعِدَّت بدقة لتوجَّه إلى قلب الأمة الإسلامية؛ فأصابت المسلمين بالذهول حتى قيل: إن المدينة بقيت خمسة أيام بعد استشهاد عثمان t بلا خليفة[18].

لم يكن في المسلمين أولى بالخلافة من علي t؛ لمكانته وفضله وإمكانياته، ولكن عليًّا وسائر الصحابة لم يكونوا يُقبِلون على الإمارة، أو يتشوفون إليها، بل كل واحد فيهم كان يعتبرها تكليفًا ثقيلاً يجدر به أن يبتعد عنه، وخاصةً أن من سيتحمل المسئولية سيكون عليه عبء مواجهة الفتنة وأهلها؛ لذا ظل أهل الفتنة هذه الأيام يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي المصريون عليًّا فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدههم وتبرّأ منهم ومن مقالتهم مرَّة بعد مرَّة؛ ويطلب الكوفيون الزّبير فلا يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلاً، فباعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ ويطلب البصريّون طلحة فإذا لقيهم باعدهم وتبرّأ من مقالتهم مرَّة بعد مرَّة؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يَهْوَوْنَ، فلما لم يجدوا ممالئًا ولا مجيبًا، جمعهم الشرّ على أولّ من أجابهم، وقالوا: لا نولِّي أحدًا من هؤلاء الثلاثة. فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا: إنك من أهل الشورى؛ فرأيُنا فيك مجتمعٌ، فاقدمْ نبايعك. فبعث إليهم: إني وابن عمر خرجنا منها، فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثَّل:

لا تخلطنَّ خبيثات بطَيِّبة *** واخلع ثيابك منها وانجُ عريانا

ثمّ إنهم أتوا ابن عمر عبدَ الله، فقالوا: أنت ابن عمر، فقم بهذا الأمر. فقال: إنَّ لهذا الأمر انتقامًا، والله لا أتعرّض له، فالتمسوا غيري. فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، والأمر أمرهم[19].

خشي أهل الفتنة على أنفسهم إن لم يقبل أحد الصحابة الخلافة، وقالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بعد استشهاد عثمان t، ودون أن يكون هناك خليفة فلن نسلم[20]؛ لذا عزموا -وهم في أوْج قوتهم، وسيطرتهم على الأوضاع بالمدينة- على أن يُوَلُّوا خليفة بأقصى سرعة؛ فجمعوا أهل المدينة، وقالوا لهم: يا أهل المدينة، أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبعٌ، وقد أجلناكم يومكم، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلَنَّ غدًا عليًّا وطلحة والزبير وأناسًا كثيرًا! فغشي الناس عليًّا فقالوا: نبايعك؛ فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى. فقال علي: دعوني والتمسوا غيري؛ فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟ فقال: قد أجبتكم، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، ألا إني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه. ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد.

ولما أصبحوا يوم البيعة، وهو يوم الجمعة، حضر الناس المسجد، وجاء عليٌّ فصعد المنبر وقال: أيها الناس، عن ملأٍ وإذن، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنتُ كارهًا لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألاَ وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي، وليس لي أن آخذ درهمًا دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس[21].

فلما أكَّد المسلمون رغبتهم في بيعته؛ قال: ففي المسجد، فإنَّ بيعتي لا تكون خفيًّا، ولا تكون إلاَّ عن رضا المسلمين. فلمّا دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس[22].

لقد كان علي t كارهًا للخلافة، غير راغب فيها، ولكنه تولاّها رغمًا عن إرادته -لا إكراهًا- ولكن حرصًا على وَحْدة الأمة، وحفظًا لكيانها الذي يتعرض لعاصفة عاتية توشك أن تقتلع جذوره، وتعيد أمة الإسلام إلى زمن الجاهلية مرةً أخرى. يقول القاضي ابن العربي: "فانعقدت له البيعة ولولا الإسراع بعقد البيعة لعليٍّ لجرى على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه، ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار ورأى ذلك فرضًا عليه، فانقاد إليه"[23].

بدأ علي t خلافته التي لم تستقرّ له، ولم يهدأ له فيها بال بمواجهة رغبات المسلمين المتطلعة للقصاص من قتلة عثمان t. ولا شك أن القصاص لعثمان t واجب، ولا شك أيضًا أن عليًّا t كان حريصًا على تنفيذ القصاص، ولكنه -وهو الخبير المجرِّب- رأى أن أهل الفتنة الذين قتلوا عثمان هم المسيطرون على أَزِمَّة الأمور في المدينة الآن، ولو حاول تنفيذ القصاص لانقلب كل هؤلاء على أهل المدينة قتلاً وتمثيلاً، وهم ليسوا بأهل دين وتقوى، بل أهل فسق وفجور وجرأة على الدماء والأموال؛ لذا رأى علي t تأجيل تنفيذ القصاص حتى تستقر الأمور في المدينة، ويعود الهدوء إليها، ويرجع أهل الفتنة إلى بلادهم، ويتم التحقيق في حادث القتل، وتحديد القتلة ومن عاونهم بأعينهم، ثم يتم القصاص. ومما يثبت هذا ما رواه تاريخ الشعبيّ، قال: "خرجت عائشة رضي الله عنها نحو المدينة من مكَّة بعد مقتل عثمان، فلقيها رجل من أخوالها، فقالت: ما وراءك؟ قال: قُتل عثمان واجتمع الناس على عليٍّ، والأمر أمر الغوغاء"[24].

وكان كثير من الصحابة مع علي t في رأيه، ولكن كان هناك مجموعتان يرون رأيًا مخالفًا؛ فكانوا يرون وجوب القصاص الفوري من قتلة عثمان t، وقد كان الفريق الأول يضم السيدة عائشة رضي الله عنها، وطلحة بن عبيد الله t، والزبير بن العوام y، والفريق كله من أهل الجنة كعلي t تمامًا.
أمَّا الفريق الثاني فكان يضم معاوية بن أبي سفيان t والي الشام من قِبَل عثمان، والذي يعتبر نفسه ولي دمه؛ لأنه من بني أمية مثله.

أرسل علي t إلى معاوية يبلغه ببيعة المسلمين له، ويطلب منه ومن أهل الشام البيعة، ولكن معاوية t أرسل إليه يطلب منه أن يقتص أولاً من قتلة عثمان ثم يبايعه، أو أن يُخَلِّي علي t بين معاوية وأهل الشام وبين قتلة عثمان ليقتصوا منهم، ويكون الأمر بعيدًا عن الخليفة؛ فلا يتحمل مسئوليته أمام أهل الفتنة، ثم يبايع معاوية وأهل الشام عليًّا بعد ذلك. ولكن عليًّا t رفض هذه العروض، واعتبر ذلك عصيانًا من معاوية t؛ فقرَّر عزله عن الشام، وأرسل سهل بن حنيف واليًا جديدًا، ولكن أهل الشام منعوه من الوصول، وردُّوه إلى المدينة.

الطريق إلى موقعة الجمل

قرَّر علي t أن يغزو معاوية وأهل الشام، باعتبار الشام أصبح إقليمًا خارجًا ومنشقًّا عن الدولة، وهي نظرة وجيهة؛ فقد بايع المسلمون، وهذا والٍ يرفض البيعة، ويرفض السمع والطاعة، على حين رأى معاوية t أنه وأهل الشام لم يبايعوا عليًّا t بعدُ؛ لذا لا ينطبق عليهم حكم الخارجين؛ فلهم عذر، ولكن الحق كان مع علي t، وستثبت الأحداث صحة موقف عليٍّ t.

بينما علي t يستعد للخروج إلى الشام، وجد أن الفريق الثاني -الذي يضم السيدة عائشة والزبير وطلحة- قد خرج دون إنذار إلى البصرة؛ فقد رأى هؤلاء الصحابة الكرام أن عليًّا t في موقف حرج يمنعه من القصاص، ووجدوا في أنفسهم وأنصارهم القدرة على ذلك؛ ومن ثَمَّ قرَّروا الخروج إلى البصرة لتنفيذ القصاص في قتلة عثمان t، وللإصلاح بين المسلمين، وإيقاف الخلافات بما لهؤلاء الصحابة الكرام جميعًا لدى المسلمين من مكانة، وكان ذلك في شهر جمادى الآخرة سنة 36هـ.

فُوجئ علي t بهذا التحرك؛ فقرَّرَ بدلاً من المسير إلى أهل الشام أن يتجه إلى البصرة بجيشه لا ليقاتل هؤلاء الصحابة، بل ليردهم إلى المدينة، ولكنَّ الحسن بن علي t نصحه بعدم الذهاب؛ لأنه t يرى أن تواجه الجيوش لا بد أن يُسفِر عن حروب وخسائر دامية، ولكن عليًّا t صمَّم على الذهاب.

وفي البصرة -التي كانت تعجُّ بالكثير من أهل الفتنة المشاركين في قتل عثمان t- خرج الوالي من قِبَل علي t لما علم بمقدم أصحاب الجمل وقاتلهم؛ فاضطروا لقتاله، وانتصروا عليه.

كان علي t يريد التصالح مع هؤلاء الصحابة، وردهم إلى المدينة -كما أسلفنا- لذا لما نزل بذي قارٍ دعا عليٌّ القعقاع فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الْقَ هذين الرجلين -وكان القعقاع من أصحاب النبي r- فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفُرقة. وقال له: كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس عندك فيه وصاة مني؟ قال: نلقاهم بالذي أمرت به، فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا رأينا، وكلمناهم كما نسمع ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة فسلّم عليها وقال: أي أمة، ما أشخصك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟
قالت: أي بُنيَّ، الإصلاح بين الناس.
قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما. فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها، فقالت: الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما، أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان[25].
قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟
قال: أقول: إن هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المال، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم. وايم الله، إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه! وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل. قالوا: قد أصبت وأحسنت فارجعْ، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.

فرجع إلى عليٍّ فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علي بذي قار قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أي حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قتالهم على بال[26].

في هذا الوقت وصل علي t، وبعث إلى أصحاب الجمل حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع، فكفوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر. فردوا حكيمًا ومالكًا إلى عليٍّ أننا على ما فارقنا عليه القعقاع[27].

وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، وطلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما بذلك، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح.

استبشر المسلمون خيرًا بهذا الصلح، ولكنه -في الوقت ذاته- كان وبالاً على أهل الفتنة الذين صُعِقوا لما علموا بأمره، وخافوا على أنفسهم، وباتوا بشر ليلة وقد أشرفوا على الهلكة؛ فاجتمع نفر، منهم: علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان، ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون وابن السوداء وخالد بن ملجم فتشاوروا؛ فقالوا: ما الرأي؟ وهذا علي وهو والله أبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه سواهم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه، ورأوا قلتنا في كثرتهم، وأنتم والله ترادون وما أنتم بالحي من شيء!

كان أهل الفتنة يخشون أن يتصالح علي t وأصحاب الجمل؛ فيتفرَّغوا لهم ويحاسبوهم؛ لذا انتهى الاجتماع المشئوم باتفاق خبيث صاغه رأس الفتنة عبد الله بن سبأ اليهودي؛ إذ قال: يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجد بدًّا من أن يمتنع، ويشغل الله عليًّا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون[28].

وسواءٌ كان رأس الأمر هو عبد الله بن سبأ اليهودي، أو أنه شخصية غير حقيقية -كما يرى بعض الباحثين- فإن الثابت أن هناك من وضع هذا المخطَّط ونفَّذه، فردًا كان أم جماعة.

كان المخطَّط خبيثًا، والكيد شديدًا، وكذلك كان التنفيذ دقيقًا؛ يقول ابن الأثير: "فغدوا مع الغَلَس وما يُشعَر بهم، فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم"[29].

ظن جيش علي t أن أصحاب الجمل قد خانوه، كما ظنَّ جيش الجمل نفس الظن بجيش علي t؛ فاشتعل القتال، واضْطُرَّ الجميع للقتال، ولكن عليًّا t كان حريصًا على إنهاء المعركة سريعًا تقليلاً للخسائر؛ لذا لما وجد جيش الجمل يدافع باستماتة عن الجمل الذي تركبه السيدة عائشة رضي الله عنها -وبه سُمِّيَت المعركة معركة الجمل- أمر جنوده بعقر الجمل لكي تخمد عزيمة المدافعين، وتنتهي المعركة، وقد كان.

اللافت للنظر أن كل الشواهد أثبتت صحة موقف علي t من القضية؛ ففي أثناء المعركة وجد الزبير t أن الهدف الذي خرج لأجله أصبح غير قابل للتحقيق؛ فترك ساحة المعركة عائدًا إلى المدينة، فأدركه رجل ممن كانوا معه يُدعى عمرو بن جرموز، فقتله وهو يصلي t، وقد قُتِل أيضًا طلحة بن عبيد الله t.

وقد أكرم علي t السيدة عائشة رضي الله عنها، وأرسل معها أخاها محمد بن أبي بكر يوصلها إلى المدينة معززة مكرَّمة ومعها أربعون من نساء البصرة، فذهبت إلى مكة للحج ثم رجعت إلى المدينة[30].
كما أثبتت الحوادث صحة موقف الحسن بن علي -رضي الله عنهما- في دعوته أباه إلى عدم الخروج إلى أصحاب الجمل؛ كي لا يحدث قتال.

ومن الحقائق التي تم تزويرها ما جرى من تضخيم لأعداد القتلى في موقعة الجمل حتى روى بعضهم "أنه قُتِل في ذلك اليوم ثلاثون ألفًا"[31]. والواقع والمعقول أن الرقم الحقيقي أقل من ذلك بكثير؛ لأن عدد جيش علي t أصلاً كان بين تسعة آلاف إلى اثني عشر ألفًا، وكان جيش الجمل قريبًا من ذلك، كما أن القتال كان قصيرًا للغاية "كانت وقفة واحدة في يوم واحد"[32]، "وكانت الحرب أربع ساعات"[33].

لقد أراد أهل الفتنة أن يشوِّهوا تاريخ الصحابة ليطعنوا فيهم، وفي رسول الله r، كما أرادوا أن يضخِّموا من نجاحهم ليستطيعوا جلب أنصار جدد من أهل الفتنة والضلال والشقاق؛ فأذاعوا هذه الأرقام المبالغ فيها، بينما رُويَ أن شهداء معركة اليرموك مثلاً كانوا حوالي "ثلاثة آلاف شهيد"[34].
لذا فما يبدو لنا أن عدد قتلى موقعة الجمل لا يتجاوز بضع مئات من الطرفين إن لم يكن أقل من ذلك.

بعد هذه الموقعة قرَّر أمير المؤمنين علي t اتخاذ الكوفة عاصمة له بدلاً من المدينة، وأخذ من هناك يحاول توطيد أمر الخلافة في الولايات المختلفة.

كان معاوية t وأهل الشام قد رفضوا البيعة لأمير المؤمنين علي t قبل أن يقتص من قتلة عثمان t -كما ذكرنا-، ولم يكن في نفس معاوية tt، وكذلك لم يكن به طمع في الخلافة كما يصوِّر المرجفون وأهل الفتنة، وإنما هو اجتهاد رآه صوابًا يثيبه الله I عليه بإذنه. ومما يثبت ذلك أن معاوية t لم يشارك مع أصحاب الجمل في الحرب، رغم أنه على نفس رأيهم، ولو تدخَّل لصالحهم لكان جديرًا بما معه من قوة الشام الصلبة، وجنوده المطيعة من أن يرجِّح كفتهم، ولكنه t لم يكن يود محاربة علي t، ولا يجرؤ على التفكير في ذلك. يقول الإمام ابن تيمية: "ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان من أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال"[35]. شيء من المشاقة أو العداوة الشخصية لعلي

الطريق إلى موقعة صفين

 قرَّر أمير المؤمنين علي أن يسير لقتال أهل الشام؛ ليلزمهم بالبيعة والطاعة، فقال له الحسن بن علي y: "يا أبتِ، دع عنك هذا؛ فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم". فلم يقبل منه ذلك، بل صمَّم على القتال[36].

كانت تلك هي النصيحة الثانية من الحسن t بعدم لقاء الجيوش حتى لا تحدث المواجهة، ويتدخل أهل الفتنة، ويصير القتال لازمًا؛ ومن ثَمَّ تسيل دماء المسلمين، ولكن أمير المؤمنين أصرَّ على رأيه.

اتجه أمير المؤمنين بجنده إلى النخيلة قريبًا من الكوفة وعسكر بها؛ لتوافيه جنود البصرة بقيادة واليها عبد الله بن عباس y، ثم توجه إلى صِفِّين على شاطئ الفرات الغربي؛ فخرج إليه معاوية t على رأس جيشه حتى نزل صفين أيضًا، وكان ذلك أوائل ذي الحجة سنة 36هـ.

لم يكن هناك رغبة عند الطرفين في خوض الحرب؛ فقد علم الجميع حرمة الدم المسلم، وهم لا يريدون تكرار ما حدث يوم الجمل.

كما كانت القبائل في كلٍّ من العراق والشام قبائل واحدة انقسمت في سكناها إلى قسمين أيام الفتوح؛ فمَن فتح الشام استقر فيها، ومن فتح العراق وفارس استقر فيها كذلك، وكلا القسمين يحتفظ بصلات أرحامه. كما أن الجميع قريب من زمن النبوة والوحي، وهم من خير القرون في الأمة الإسلامية[37].

كما كان هناك اتجاه لاعتزال تلك الفتنة والحرب؛ فهذا أيمن بن خريم بن فاتك يقول في هذا المعنى:

ولسـت مقاتلاً رجلاً يصلـي *** على سلطان آخر مـن قريـشِ
له سلطـانـه وعليَّ إثمـي *** معـاذ اللـه مـن سفـهٍ وطيـشِ
أأقتل مسلمًا في غيـر جُـرمٍ *** فليـس بنافعي ما عشت عيـشي

بعد وصول الجيشين إلى صفين بدأت الرسل تتوالى بينهما بغية الوصول إلى حقن الدماء، ولكن أخبار تلك السفارات مروية عن رواة غير ثقات، ويتضح في كثير منها الكذب؛ لذا لا نستطيع أن نجزم بصحة شيء فيها، إلا أن نهاية الأمر أنه لم يتم التوصل لحل يرضي الطرفين. وجدير بالذكر أن مِن جند الشام مَن كان يستنكر أن يقاتل معاويةُ عليًّا y؛ يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "كان غير واحد من عسكر معاوية يقول له: لمَ ذا تقاتل عليًّا وليس لك سابقته ولا فضله ولا صِهْره، وهو أولى بالأمر منك؟! فيعترف لهم معاوية بذلك، لكنْ قاتلوا مع معاوية لظنِّهم أن عسكر عليٍّ فيه ظَلَمَة يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان وأنهم يقاتلونهم دفعًا لصيالهم عليهم، وقتال الصائل جائز؛ ولهذا لم يبدءوهم بالقتال حتى بدأهم أولئك"[38].

ومما ينبغي معرفته قبل الحديث عن وقعة صفين أن جيش الكوفة لم يكن طوعًا لأمير المؤمنين عليٍّ t؛ فقد كان في الجيش عدد من أهل الفتن، وممن قتلوا عثمان t؛ لذا كانوا ينفذون ما خطط له سادتهم، وما يرضي أهواءهم، ولم يكونوا في الحقيقة يدينون لعلي t بالطاعة؛ فعن عامر الشعبي وأبي جعفر الباقر قال: بعث عليٌّ رجلاً إلى دمشق ينذرهم أن عليًّا قد نَهَدَ في أهل العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية. فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس: الصلاة جامعة. فملئوا المسجد، ثم صعد المنبر فقال في خطبته: إن عليًّا قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأي؟ فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم. وقام ذو الكلاع فقال: يا أمير المؤمنين، عليك الرأي وعلينا الفعال. ثم نادى معاوية في الناس: أن اخرجوا إلى معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه. فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى عليٍّ فأخبره، فأمر علي مناديًا فنادى: الصلاة جامعة. فاجتمعوا، فصعد المنبر فقال: إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي؟ فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدرِ عليٌّ مما قالوا شيئًا، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون[39].

لم ينتهِ الرسل إلى اتفاق يوقف الاستعداد للحرب؛ في ذات الوقت الذي كان أهل الفتنة فيه يسعون إلى إيقاعها بكل ضراوة، وقد وقعت الحرب، ولكن اعتزلها جمهور الصحابة؛ فقد روى محمد بن سيرين رحمه الله قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله r عشرة آلاف؛ فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين"[40].

عمار والفئة الباغية

ومن أهم أحداث موقعة صفين استشهاد الصحابي الجليل عمار بن ياسر t الذي كان يحارب في صفوف أمير المؤمنين علي t؛ وذلك لأن رسول الله r قال عنه: "وَيْحَ عَمَّارٍ! تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ"[41]. فقد كشف استشهاده t عن حقيقة الموقف بين الفريقين؛ فعلم من كان متردِّدًا أن عليًّا t ومن معه هم المصيبون، وأن معاوية t ومن معه مخطئون في اجتهادهم.

ولا ينبغي التطاول على معاوية t ومن معه، واتهامهم بالكفر لقتلهم عمارًا t؛ فقد قال عمار t نفسه: "حدثني حبيبي رسول الله r أني لا أموت إلا قتلاً بين فئتين مؤمنتين"[42]. فليس هؤلاء كقتلة عثمان t الذين تواطئوا على الفتنة والضلال.

التحكيم

خشي عدد من عقلاء الطرفين من استمرار القتال حتى لا يهلك المسلمون، فيستغل الأعداء ذلك، ويستأصلوا الإسلام، فلا تقوم له بعد ذلك قَوْمة، وكان عقلاء الكوفة أسبق إلى الموادعة؛ فهذا الأشعث بن قيس الكندي لمَّا اشتد القتال يخطب في قومه أهل الكوفة في المساء خطبته التي قادت للصلح؛ فيقول: "قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قَطُّ.
ألا فليبلغ الشاهد الغائب، أنَّا إنْ نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات.
أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحتف، ولكني رجل مسنّ أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا.

اللهم إنك تعلم أنى قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ، وما توفيقي إلا بالله.

فلما وصل الخبر معاوية بخطبة الأشعث فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى؛ اربطوا المصاحف على أطراف القَنَا.

قال صعصعة: فثار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: يا أهل العراق، مَن لذرارينا إن قتلتمونا، ومن لذراريكم إن قتلناكم؟ اللهَ الله في البقية.

فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح، ونادوا: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم.

وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض وقد وضع المصحف على رأسه ينادي: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم.

فقال الأشعث لأمير المؤمنين: أجب القوم إلى كتاب الله؛ فإنك أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال.

فقال عليٌّ t: إن هذا أمر ينظر فيه.
وذكروا أن أهل الشام جزعوا فقالوا: يا معاوية، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه، فأعدها جذعة، فإنك قد غمرت بدعائك القوم وأطمعتهم فيك.

فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص، وأمره أن يكلم أهل العراق؛ فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن عمرو بن العاص، إنها قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا، فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم، وقد دعوناكم إلى أمرٍ لو دعوتمونا إليه لأجبناكم، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من الله؛ فاغتنموا هذه الفرجة.

وأمَّا الأشتر، فلم يكن يرى إلا الحرب؛ لأنه من أهل الفتنة، ولكنه سكت على مضضٍ، وذكروا أن الناس ماجوا وقالوا: أكلتنا الحرب، وقتلت الرجال، وثارت الجماعة بالموادعة[43].
إذن لا يَصِحُّ شيء مما ادَّعاه أهل الفتنة كذبًا من أن رفع المصاحف هو مكيدة من الصحابي الجليل عمرو بن العاص t، أشار بها على معاوية t ليتفاديا انتصار جيش علي t، ومن ثَمَّ أوسعا الصحابييْن الجليليْن سبًّا وقذفًا شنيعًا لا يرضاه الله U.

لقد كان رفع المصاحف -في الحقيقة- عملاً رائعًا اشترك فيه العقلاء من الفريقين، وتُوِّج بموافقة أمير المؤمنين علي t؛ إذ قال: "نعم بيننا وبينكم كتاب الله، أنا أولى به منكم"[44].

وقد افترى الرواة الشيعة الكذَّابون، واختلقوا الكثير من الروايات الموضوعة لأهدافهم الخبيثة من طعن الصحابة y، وتشويه الدين؛ فقد وضعوا روايات تُضَخِّم من عدد قتلى صفين، كما فعلوا في الجمل، وللأسف اهتم المؤرخون القدماء بجمع هذه الروايات حتى كادت الروايات الحقيقية تضيع وسط هذا الركام؛ فهذا الطبري شيخ المؤرخين -رحمه الله- يذكر حول صفين ما يقارب 107 روايات تصف أحداثها من البدء إلى النهاية، ويروي فيها للشيعي الكاذب أبي مخنف لوط بن أبي يحيى المتجرئ على الصحابة خمسًا وتسعين رواية[45].

ويبلغ الرواة الكذابون، ومؤرخو الشيعة المفترون بعدد القتلى إلى سبعين ألفًا من الجهتين[46]، ويذكر المسعودي المؤرِّخ الشيعي أن قتلى جيش الشام كانوا تسعين ألفًا، ومن أهل العراق عشرين ألفًا[47].
يقولون هذا مع أن المسعودي نفسه يذكر أن عليًّا t كان تعداد جيشه تسعين ألفًا، وتعداد جيش معاوية خمسة وثمانين ألفًا[48]. أي أن المسعودي الشيعي يدَّعِي أن قتلى جيش الشام يزيدون على تعداد الجيش بخمسة آلاف؛ فأنَّى يُصَدَّق مثل هذا؟!!

لقد تم تضخيم عدد القتلى لنفس الأغراض التي تم فيها نفس الفعل في موقعة الجمل، كما أن الأرقام الحقيقية للقتلى أيضًا أقل بكثير من المكذوب، لنفس الأسباب التي ذكرناها في الجمل، وكذلك لأن الجيشيْن هنا كانا لا يريدان القتال، ولا يتحمسان له. وإضافةً إلى ذلك، فلو تم قتل هذا العدد الضخم؛ فلماذا لم تذكر كتب التاريخ بعض الأسماء كعادتها؟!!

إن الحقيقة واضحة، وهي أن أصابع أهل الفتن تدخلت في التفاصيل لتفسد على المسلمين تاريخهم، وتضرب حب الصحابة y في قلوبهم.

تم الاتفاق على التحكيم، وتم اختيار حكم عن كل فريق؛ فاختار معاوية عمرَو بن العاص y، واختار عليٌّ أبا موسى الأشعري y، وتم كتابة وثيقة التحكيم في 13 من صفر سنة 37هـ:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضي عليٍّ على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المسلمين، أنا ننزل على حكم الله وكتابه، فما وجد الحكمان في كتاب الله فهما يتبعانه، وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة تجمعهما وهما آمنان على أموالهما وأنفسهما وأهاليهما، وأن الأمة أنصار لهما على الذي يقضيان به عليه وعلى المؤمنين والمسلمين، والطائفتان كلتاهما عليهما عهد الله وميثاقه أن يفيا بما في هذه الصحيفة على أن بين المسلمين الأمن ووضع السلاح، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكما بين الناس بما في هذه الصحيفة على أن الفريقين جميعًا يرجعان سنة فإذا انقضت السنة إن أحبّا أن يردا ذلك ردَّا وإن أحبَّا زادا فيهما ما شاء الله، اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة. وشهد على الصحيفة فريق عشرة أنفس[49].

وبالتالي لم يُذكَ أمر الخلافة في الوثيقة؛ فلم يكن هناك تنازع على الخلافة، ولا ادَّعاها معاوية لنفسه أبدًا، ولا تطلَّع إليها، ومِن ثَمَّ اكتفى الحكمان بتهدئة الأمور، وتثبيتها سنة كاملة يتحاجز فيها الفريقان، ولم يفصلا في محوري الخلاف، وهما طلب علي t البيعة من معاوية tt وأهل الشام من عليٍّ القصاص أولاً من قتلة عثمان؛ فلم تكن الظروف تسمح بالفصل في هذين الأمرين، وهما محورا الخلاف. وأهل الشام، وطلب معاوية

وتبين الوثيقة أيضًا أن كثيرًا من الروايات حول صفين والتحكيم كانت روايات مكذوبة وضعها كذَّابو الشيعة؛ للنيل من الصحابة ممثَّلين في عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأبي موسى الأشعري؛ فاتهموا عَمْرًا بالمكر والخديعة، ومعاوية بالحرص على الدنيا، ومنازعة الأمر أهله، وأبا موسى بالغفلة، وكلُّهم من هذه الاتهامات بُرآء.

فقد استحلَّ الكذَّابون أن يضعوا تلك الرواية التي صارت أشهر رواية عن التحكيم، وكلها إساءة للصحابة، حتى وُضِعَت في مناهج التعليم في البلاد الإسلامية، وصارت تُورِث المسلمين بُغض صحابة رسول الله r، فيروي هؤلاء في وصف التحكيم، وإعلان نتائجه:

"قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي أن عمرًا وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يقدِّم أبا موسى في الكلام، يقول: إنك صاحب رسول الله r وأنت أسن مني، فتكلم وأتكلم. فكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدِّمه في كل شيء، اغْتَزَى[50] بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع علي. قال: فنظر في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمرًا على عبد الله بن عمر فأبى عليه، فقال له عمرو: خبرني ما رأيك؟ قال: رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. فقال له عمرو: فإن الرأي ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله U به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبر، يا أبا موسى، تقدم فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك. إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده، فإن عمرًا غادر، ولا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك. وكان أبو موسى مغفلاً، فقال له: إنا قد اتفقنا. فتقدم أبو موسى فحمد الله U وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألم لشعثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًّا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًّا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً. ثم تنحى، وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعُ صاحبه كما خلعه، وأثبِّتُ صاحبي معاوية؛ فإنه وليُّ عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه. فقال أبو موسى: ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا. وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنَّعه بالسوط، وحمل على شريح ابنٌ لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم"[51].

إن هذا المستوى المتدني من التعامل لا يليق بالشخصيات السوية، فضلاً عن أن يكونوا من الصحابة الكرام، ولكنها نفوس أهل السوء الذين يبغضون خير البرية r، ولكنهم لا يستطيعون الطعن فيه؛ لئلاّ ينكشف أمرهم؛ فشرعوا رماحهم لينالوا من أصحابه المرضيِّ عنهم منه r، ومن رب العالمين I.

انشغل أمير المؤمنين علي t بعد صِفِّين بقتال الخوارج، ولا تحدثنا كتب التاريخ عن اجتماع الحكمين بعد عام كما تم تحديده، ولكن حدثت عدة وقائع؛ إذ عزل علي t والي مصر من قِبَلِه قيس بن سعد بن عبادة، بعدما شَهَّر به أهل الفتنة، وأذاعوا وجود اتصالات بينه وبين معاوية t، وعيَّن مكانه محمد بن أبي بكر الذي وقع في عدة أخطاء، وهاجم مجموعة ممن ساءهم مقتل الخليفة عثمان t، واعتزلوا بعيدًا عن الناس ينتظرون اجتماع الأمة، واستقرار الخلافة؛ فاستنجد هؤلاء بمعاوية الذي كان يعتقد أن محمد بن أبي بكر ممن خرج على عثمان t، وقُتِل محمد بن أبي بكر في إحدى معاركه؛ فأرسل معاوية t عمرَو بن العاص t، فدخل مصر، وضمَّها للشام، فأصبحت مكسبًا ضخمًا للشام، وخسارة فادحة للكوفة.

جرت مكاتبات بين علي t ومعاوية t أسفرت عن وضع الحرب بينهما على أن يكون لعلي العراق، ولمعاوية الشام؛ يقول الطبري: "وفي هذه السنة (40هـ) جرت بين عليٍّ وبين معاوية المهادنة -بعد مكاتبات جرت بينهما- على وضع الحرب بينهما، ويكون لعليٍّ العراق ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو.

ولما لم يعط أحد الفريقين صاحبه الطاعة، كتب معاوية إلى عليٍّ: أمَّا إذا شئت فلك العراق ولي الشام، وتكف السيف عن هذه الأمة، ولا تهريق دماء المسلمين. ففعل ذلك، وتراضيا على ذلك، فأقام معاوية بالشام بجنوده يجبيها وما حولها، وعليٌّ بالعراق يجيبها ويقسمها بين جنوده"[52].

مقتل الإمام علي وعام الجماعة

لقد عانى أمير المؤمنين علي t كثيرًا من عصيان جنوده، ولم يكن يمكنه t أن ينتصر بمثل هؤلاء؛ فقد كثرت مواقفهم التي خذلوه فيها وتعدَّدت، بينما كان أهل الشام طوعًا لمعاوية t.

سارت الأمور على هذا المنوال حتى قدَّر الله U أن يستشَهد علي t، وكان ذلك على أيدي الخوارج؛ فقد كان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي، وعمرو بن بكر التميمي السعدي، وهم من الخوارج، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم ثم ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلالة وأرحنا منهم البلاد!

فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليًّا. وكان من أهل مصر، وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية. وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص.

فتعاهدوا أن لا ينكص أحدهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، وأخذوا سيوفهم فسموها واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كل رجل منهم الجهة التي يريد؛ فأتى ابن ملجم الكوفة، فلقي أصحابه بالكوفة وكتمهم أمره، ورأى يومًا أصحابًا له من تيم الرباب، وكان عليٌّ قد قتل منهم يوم النهر عدة، فتذاكروا قتلى النهر، ولقي معهم امرأة من تيم الرباب اسمها قطام، وقد قتل أبوها وأخوها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال. فلما رآها أخذت قلبه فخطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تشتفي لي. فقال: وما تريدين؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبدًا وقينةً وقتل علي.

فقال: أما قتل عليٍّ فما أراكِ ذكرته وأنت تريدينني. قالت: بلى، التمس غرته، فإن أصبته شفيت نفسك ونفسي ونفعك العيش معي، وإن قُتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. قال: والله ما جاء بي إلا قتل علي، فلك ما سألت.

قالت: سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك. وبعثت إلى رجل من قومها اسمه (وردان) وكلمته، فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلاً من أشجع اسمه شبيب بن بجرة، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وماذا؟
قال: قتل علي.
قال شبيب: ثكلتك أمك! لقد جئت شيئًا إدًّا! كيف تقدر على قتله؟
قال: أَكْمَنُ له في المسجد، فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا فقد شفينا أنفسنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها.
قال: ويحك! لو كان غير عليٍّ كان أهون، قد عرفت سابقته وفضله وبلاءه في الإسلام، وما أجدني أنشرح لقتله.

قال: أما تعلمه قتل أهل النهر العبَّاد الصالحين؟ قال: بلى. قال: فنقتله بمن قتل من أصحابنا. فأجابه.
فلما كان ليلة الجمعة، وهي الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي ومعاوية وعمرو، أخذ سيفه ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السُّدَّة التي يخرج منها عليٌّ للصلاة، فلما خرج علي نادى: أيها الناس، الصلاة الصلاة. فضربه شبيب بالسيف فوقع سيفه بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف، وقال: الحكم لله لا لك يا علي، ولا لأصحابك! وهرب وردان فدخل منزله، فأتاه رجل من أهله، فأخبره وردان بما كان، فانصرف عنه وجاء بسيفه فضرب به وردان حتى قتله، وهرب شبيب في الغلس، وصاح الناس، فلحقه رجل من حضرموت يقال له: عويمر، وفي يد شبيب السيف، فأخذه وجلس عليه، فلما رأى الحضرمي الناس قد أقبلوا في طلبه وسيف شبيب في يده، خشي على نفسه فتركه ونجا، وهرب شبيب في غمار الناس.

ولما ضرب ابن ملجم عليًّا قال: لا يفوتنكم الرجل. فشد الناس عليه فأخذوه، وتأخر عليٌّ وقدم جعدة بن هبيرة -وهو ابن أخته أم هانئ- يصلي بالناس الغداة، وقال علي: أحضروا الرجل عندي. فأُدخِل عليه.
فقال: أيْ عدو الله! ألم أحسن إليك؟
قال: بلى.
قال: فما حملك على هذا؟
قال: شحذته أربعين صباحًا، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه. فقال علي: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا من شر خلق الله. ثم قال: "النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي. يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون: قد قُتِل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلَنَّ إلا قاتلي. انظر يا حسن، إن أنا مِتُّ من ضربتي هذه فاضربه ضربةً بضربة، ولا تمثلَنَّ بالرجل، فإني سمعت رسول الله r يقول: (إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ)[53].

هذا كله وابن ملجم مكتوف، فقالت له أم كلثوم -ابنة علي-: أيْ عدو الله! لا بأس على أبي، والله مخزيك!

قال: فعلى مَن تبكين؟ والله إن سيفي اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر ما بقي منهم أحد[54].

لقد تكالب أهل الفتن على علي t؛ فمن السبئيين إلى الخوارج كلهم يسيء إليه، ويخرج عليه، ويحرض، ويسعى في قتله طلبًا لامرأة جميلة مدعيًا أنه يتقرب إلى الله U، وما بهم إلا أن الشيطان قد استعبدهم.

صُدِمت الأمة بمقتل علي t، كما صدمت بمقتل عثمان t، وبدا للعقلاء منها أن الفتنة ستزيد اشتعالاً، وأن الدماء ستحفر لها نهرًا جديدًا. وبالفعل قام أهل الكوفة، وبايعوا الحسن بن علي t، فجعل على قيادة الجيش عبيد الله بن العباس[55].

خرج الحسن t بجيش كثيف إلى المدائن للقاء معاوية t، يصفه الحسن البصري رحمه الله بقوله: "استقبل -والله- الحسنُ بن علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال"[56]. وأتى معاوية حتى نزل مسكن، وهناك شاهد أهل الشام تلك الجحافل، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولِّي حتى تقتل أقرانها!

فقال له معاوية -وكان والله خير الرجلين-: أيْ عمرو! إن قَتَل هؤلاءِ هؤلاءِ وهؤلاء هؤلاء مَن لي بأمور الناس، مَن لي بنسائهم، مَن لي بضيعتهم. فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه. فأتياه فدخلا عليه فتكلما، وقالا له فطلبا إليه؛ فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك، ويسألك. قال: فمَن لي بهذا؟
قالا: نحن لك به. فما سألهما شيئًا إلا قالا: نحن لك به، فصالحه.
فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله r على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقبِل على الناس مرةً وعليه أخرى ويقول: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[57].

لقد أنبأ الرسول r بما سيحدث بعد وفاته بثلاثين عامًا في معجزة عظيمة أسفرت عن التئام شمل المسلمين بعد عَقْدٍ كاملٍ تقريبًا من الفتن والمؤامرات والدسائس التي حاكها أهل الفتن من اليهود والمجوس والشيعة.

لقد سار الحسن بن علي t على نهجه الذي اختاره من حقن دماء المسلمين، كما كان يُوصِي أباه من قبل؛ فحفظ الإسلام والمسلمون له هذا الصنيع طوال الدهر.

وإنه لدرس لنا -نحن المسلمين- بالتنبُّه لأهل الفتن ومكائدهم. هذا الدرس دفع الصحابة y ثمنه غاليًا؛ فعلينا ألا نكرِّر هذه التجرِبة، عسى الله U أن ينجِّي هذه الأمة من السوء وأهله.

مقتل الإمام علي وعام الجماعة

بعد أن تم أمر التحكيم اشتد أمر الخوارج، وأرسلوا رجلين منهم فقالا له: يا علي لا حكم إلا لله.
فقال: نعم، لا حكم إلا لله.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل ذلك: إن هذه كلمة حق أُريد بها باطل، فالخوارج يؤولونها على غير ما يراد بها.
فقال له هذان الرجلان من الخوارج: تب من خطيئتك، واذهب بنا إليهم نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قد كتبنا بيننا وبين القوم عهودًا، وقد قال الله تعالى: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ] {النحل:91} .
فقال أحدهما: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنك، أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه.
فقال علي رضي الله عنه: تبًا لك، ما أشقاك، كأني بك قتيلًا تسفي عليك الريح.
فقال الرجل: وددت أن قد كان ذلك.
فقال علي: إنك لو كنت محقًا كان في الموت تعزية لك عن الدنيا، ولكن الشيطان استهواكم.
فخرجا من عنده يحرّضان الناس تحريضًا على الخروج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأعلنوا صراحة تكفيرهم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتكفيرهم لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعًا، وكفّروا كل من رضي بالتحكيم،
ومن كفر وجب قتله، لأنه أصبح مرتدًا، وبهذا استباحوا دماء من رضي بالتحكيم، واجتمعوا في بيت عبد الله بن وهب الراسبي، وهو أحد زعمائهم، فخطبهم خطبة بليغة زهّدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال لهم:
فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد.

الخوارج ويوم النهروان

اجتمعوا هؤلاء جميعًا في مكان يُسمّى النهروان، وبدءوا يدعون من على شاكلتهم من الطوائف الأخرى، وقالوا: يجب أن نخرج منكرين لهذا التحكيم.
ثم قام زعيم آخر من زعمائهم وقال: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون.
وقام لهم زيد بن حصن الطائي، وتلا عليهم آيات كثيرة من القرآن الكريم منها: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ] {ص:26}.
وهو يقصد بهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقال أيضًا: قال الله تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44}.
وكفّر عليًّا ومن معه، ومعاوية ومن معه، وأخذوا يئولون الآيات حسب ما يريدون، ثم قام آخر فحثّهم على الجهاد في سبيل الله، فبكى منهم رجل يُقال أنه عبد الله بن سخبرة السلمي تأثرًا بهذه الكلمات، وحثّ الناس على الخروج لقتل هؤلاء الكفار، وقال: اخرجوا، اضربوا في وجوههم، وجباههم بالسيوف، حتى يُطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم، وأُطيع الله كما أردتم، أنابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قُتلتم فأي شيءٍ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته.
وبدءوا يحمّسون أنفسهم، والناس على الخروج على المسلمين الذين هم في نظرهم كفارًا.
ويعلّق ابن كثير على مواقفهم هذه فيقول: إن هؤلاء الخوارج من أغرب بني آدم، فسبحان مَنْ نَوّع خَلْقَهُ كما أراد.
وقال فيهم الكثير من العلماء إنهم ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا]{الكهف:103، 104،105}.
فجمّعوا قواهم، وقرروا الخروج إلى المدائن في شمال شرق الكوفة، لكنهم غيّروا وجهتهم لقوة المدائن ومنعتها واتجهوا إلى مكان آخر قريب من الكوفة، وبدءوا يقطعون الطرق، ويقتلون المسلمين بحجة أن من رضي بالتحكيم فهو كافر مرتد يجب قتله، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وقتلوا زوجته رغم أنها كانت حاملًا.
فلما زاد فحشهم وكثرت جرائمهم قرر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يقاتلهم، فخرج لهم بجيش كبير اختلف الرواة في تقدير عدده، ولكنه على أي حال كان يزيد كثيرًا عن جيش الخوارج.
وقبل أن يدخل معهم في قتال أراد رضي الله عنه أن يجنّب المسلمين شر القتال بعد ما حدث في موقعتي الجمل وصفين، وقُتلت الأعداد الكبيرة من المسلمين، فبعث إليهم من يقول لهم: عودوا إلى طاعة أميركم، يحكم بينكم فيقتل مَنْ قتل أحدًا من المسلمين، ويعفو عن من لم يقتل.
فاجتمعوا وقالوا: كلنا قتل إخوانكم، وقد استحللنا دمائهم ودمائكم.
خرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه، وبدأ في وعظهم، فقال لهم: ارجعوا إلى ما خرجتم منه، ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولّت لكم أنفسكم أمرًا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيمًا عند الله سبحانه وتعالى، فكيف بدماء المسلمين؟
فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا بينهم: لا تخاطبوهم، ولا تكلموهم، وتهيأوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة، وكان هذا شعارهم.
رتّب علي بن أبي طالب رضي الله عنه جيشه، وجعلت راية أمان مع الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وقال: من ذهب إلى هذه الراية فهو آمن. أملًا في تقليل عدد من يُقتل.
وذكرنا قبل ذلك أن عدد الخوارج في البداية كان اثنا عشر ألفًا، ولما حاورهم عبد الله بن العباس رضي الله عنه تاب منهم أربعة آلاف، ورجعوا معه إلى علي رضي الله عنه، وبعد المحاورات والمناقشات الأخيرة رجع أربعة آلاف آخرون، وبقي أربعة آلاف على رأيهم.
والتقى الجيشان فكانوا على أهبة الاستعداد للقتال، فعاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جديد وقال لهم: هذه راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، من توجه إليها فهو آمن، ومن عاد إلى الكوفة فهو آمن، ومن ذهب إلى المدائن فهو آمن.
فبدأ البعض منهم بالانسحاب إما مكرًا وخديعة؛ ليخرج بعد ذلك، وإما خوفًا، فمنهم من توجه إلى راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، ومنهم من توجه إلى الكوفة أو المدائن، وتركهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما وعدهم، وبقي منهم ألف صامدون لقتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجيشه - الذي قيل في روايات كثيرة إن قوامه كان ما بين الستين والثمانية وستين ألفًا - فقرر علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتلهم.
ونذكر في هذا الشأن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بظهور هذه الطائفة العجيبة، فقد روى الإمام مسلم عن زَيْد بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ.
وفي البخاري ومسلم قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، فَوَاللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وعند الإمام أحمد عَنْ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَتَلَهُمْ ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ، لَا يُجَاوِزُ حَلْقَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنْ الْحَقِّ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ رَجُلًا أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ فِي يَدِهِ شَعَرَاتٌ سُودٌ، إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ.
فَبَكَيْنَا.
وعند أبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ، وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟
قَالَ: التَّحْلِيقُ.
وورد مثل هذه الأحاديث عن كثير من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من دلالات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ. قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ.
فَاسْتَشْرَفْنَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ.
قَالَ: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ.
قَالَ: وَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ. صححه الألباني.
فكانت هذه الأحاديث بشارات بالجنة، وبالثواب الجزيل لمن يقتل هؤلاء، وخطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جيشه يحفزّهم على القتال، وبدأ القتال بين الفريقينن، وثبتوا ثباتًا عجيبًا حتى قُتل منهم ستمائة، وجُرح أربعمائة.
قال أبو أيوب الأنصاري: طعنت رجلًا من الخوارج بالرمح فأنفذته في ظهره، فأيقن أنه ميت، فقلت: أبشر يا عدو الله بالنار.
فقال: ستعلم أينا أولى بها صليًا.
فهو إلى آخر لحظةٍ في حياته مُصِرّ على ما هو عليه.
بعد انتهاء المعركة سريعًا، سلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأربعمائة إلى ذويهم ليداووهم، وردّ أسلابهم، وأعطاهم فرصة أخرى للتوبة، وسميت هذه المعركة معركة النهروان.
ولكن يبقى الدليل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه علامة هؤلاء القوم، وهو الرجل ذو الثدية، فأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أناس من جيشه ليبحثوا عنه، فلم يجدوه، فرجعوا إليه، وأخبروه بذلك، فقال رضي الله عنه في منتهى الثقة: والله ما كَذبتُ وما كُذبتُ، لئن أخرّ من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عودوا إليهم فستجدوه.
فعادوا، فلم يجدوه، فأخبروه رضي الله عنه، فأعاد عليهم ما قاله لهم قبل ذلك فعادوا للمرة الثالثة، فوجدوه تحت مجموعة من القتلى على ضفاف النهر، فأخرجوه وكان أسودًا شديد السواد، منتن الريح، ووجدوا فيه العلامة.
فلما أُخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك سجد لله شكرًا، وسجد معه القوم سجدة طويلة يشكرون الله تعالى على أن وفقهم لهذا الخير من قتل هؤلاء الخوارج.
وكان قتال هؤلاء الخوارج أواخر سنة 37 هـ، أو أوائل سنة 38 هـ، وهو الأصح.
أما الخوارج الذين رجعوا عن قتال جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذهبوا إلى راية الأمان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أو ذهبوا إلى البلاد القريبة، فلم يرجعوا عن اقتناع منهم بأنهم على الباطل، وإنما كان رجوعهم إما خوفًا، وإما تَقِيَّة، وإما استعدادًا وترتيبًا لقتال آخر في وقت لاحق، وظلّوا طوال هذا العام يخرجون على عليٍّ رضي الله عنه واحدًا تلو الآخر، فبعد موقعة النهروان التي قُتل فيها ستمائة وجُرح أربعمائة خرج عليه رضي الله عنه رجل يُسمّى الحارث بن راشد الناجي مع مجموعة من قومه وردد نفس المقولة: لا حكم إلا لله. وقاتلهم علي رضي الله عنه، وقتل منهم الكثير، كما خرج عليه أيضًا الأشهب بن بشر البجلي، وغيره كثير، وقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه جميعًا، فكان أمر الخوارج هذا يقلّب الأمور على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة، ولم يكن جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه لينًا سهلًا في يده يسمع له ويطيع كما ينبغي، فكان دائم الانقلاب عليه، وكثير الاعتراض على كثير من الأمور التي يراها عليّ رضي الله عنه مع أنه خير أهل الأرض في ذلك الوقت.
أما الموقف في الشام فكان جيش معاوية رضي الله عنه يطيعه تمامًا، ولم يكن هناك أي حالة خروج عليه رضي الله عنه.
فكان هذا ابتلاء من الله تعالى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الموقف في مصر

كانت مصر بعيدة عن ساحات القتال، كان يتولّى أمر مصر في هذا الوقت محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من قِبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه لم يستطع السيطرة على الأمور بشكل كامل في مصر، وخاصة بعد وقعة صفين، وبعد خروج الخوارج على علي رضي الله عنه، وبدأت تقوى شوكة مَنْ هم على رأي معاوية، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما من وجوب أخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه قبل مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا لسببين:
الأول: أن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان صغير السن، فلم يكن عمره يتجاوز 26 سنة عندما تولّى الأمور في مصر.
السبب الثاني: أن تولية محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما لأمر مصر أثار حفيظة هؤلاء الذين يرون وجوب قتل من قتل عثمان رضي الله عنه أولًا قبل المبايعة، وذلك لأن محمد بن أي بكر رضي الله عنهما كان ممن شارك في حصار عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان من أهل الفتنة ابتداءً، وهو الصحابي الوحيد الذي شارك في هذا الأمر، ولكننا ذكرنا أنه رجع عن هذا الأمر، وتاب بين يدي عثمان رضي الله عنه لمّا ذكّره بأبيه أبي بكر رضي الله عنه، فبكى، وندم، وأخذ يدافع عنه، ويرد عنه أهل الفتنة، ولكن القوم غلبوه، ودخلوا على عثمان رضي الله عنه، وقتلوه، وشهدت بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وبدأ القوم يفكرون في القيام بثورة على محمد بن أبي بكر، وازدادت شوكتهم، وبدأت يد محمد بن أبي بكر رضي الله عنه تضعف على مصر، فلما علم بذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكانت مصر أقرب إليه منها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يتزعم العثمانيين كما سموا أنفسهم في مصر معاوية بن حديج السكوني، والذي كان على مقدمة الجيش الذي كان قادمًا لنصرة عثمان بن عفان رضي الله عنه قبل مقتله، ثم عاد مرة أخرى لما علموا بمقتله رضي الله عنه.
وأرسل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه جيشًا قوامه ستة آلاف للسيطرة على الأمور في مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه خبيرًا بمصر قبل ذلك، فقد كان هو أول من فتحها، وتولّى إمارتها فترة طويلة في عهد عمر وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، حتى تولّى الأمور عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وانضم الستة الآف الذين معه إلى عشرة الآف أخرى كانت مع معاوية بن حديج في مصر، فصاروا ستة عشر ألفًا، وتعاونا معًا، واستنفر محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أهل مصر للخروج معه، وكان الكثير منهم من أهل اليمن ممن يسكنون مصر، فأبوا عليه، ورفضوا، فحثهم على الجهاد في سبيل الله فخرج معه على أكبر تقدير ألفان من المسلمين، وعلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر، فأرسل قوة كان فيها الأشتر النخعي لمساندة محمد بن أبي بكر ومن معه، ولما وصل الأشتر النخعي إلى مصر وفي منطقة تُسمى (القلزم) استقبله أحد الناس، وأعطاه شربة عسل، فلما شربها مات فقد كانت مسمومة، فقيل أن الذي أشار على الرجل إعطاء الأشتر النخعي تلك الشربة المسمومة هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهذا الرواية فيها نظر وفيها ضعف، وإن صحت ففيها حجة قوية لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ لأنه يستحل دماء كل من شارك في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما كل هذه الحروب والمعارك إلا لهذا الأمر، وكان الأشتر النخعي ممن حاصر عثمان بن عفان رضي الله عنه وممن شجّع الناس على هذا الأمر.
فلما مات الأشتر النخعي ضعفت قوة وبأس فريق محمد بن أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن الأشتر كان صاحب كلمة ورأي، وكان علمًا من أعلام القتال، ولما علم معاوية، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه مات بهذه الطريقة قالا: سبحان الله، إن لله جنودًا من عسل.
كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يريد أن تسير الأمور دون قتال، أرسل رسالة إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه يقول له: إني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، فإن الناس قد اجتمعوا في هذه البلاد على خلافك، ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك إن التقينا، فاخرج منها، فإني لك لمن الناصحين والسلام.
لكن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه لم يسمع لهذه الكلمات، وتقاتل الفريقان، فكان النصر في جانب عمرو بن العاص رضي الله عنه وهُزمت القلّة القليلة التي كانت مع محمد بن أبي بكر، وقُتل رضي الله عنه أثناء القتال، وقيل تبِعه بعض أهل الشام بعد القتال، فقتلوه في خِربة قريبة من موقع المعركة التي دارت بين الفريقين.
وقد حزن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على قتله، فقد تربى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه في حجره رضي الله عنه، فقد تزوّج عليٌّ رضي الله عنه السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها بعد وفاة زوجها أبي بكر رضي الله عنه، وانقضاء عدتها، وربّى محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما.
كما حزنت السيدة عائشة رضي الله عنها حزنًا شديدًا لقتله وضمّت إليها أولاده لرعايتهم.
تمّت السيطرة بالفعل لعمرو بن العاص على مصر وأصبح واليًا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وأصبحت الشام، ومصر تحت سيطرة معاوية بن سفيان رضي الله عنه.
أما على الساحة العراقية، فقد كان القوم ينقلبون على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يومًا بعد يوم، حتى غضب عليهم غضبًا شديدًا، وخطب فيهم خطبة طويلة قال فيها: المغرور والله من غررتموه، ولَمَن فارقكم فاز بالسهم الأصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
يعلّق ابن كثير رحمه الله على هذا الأمر فيقول:
وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العرق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان؛ أعبدهم، وأزهدهم، وأعلمهم، وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه حتى كره الحياة، وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول:
ما يحبس أشقاها؟! أي ما الذي يجعل أشقاها ينتظر؟
وأشقاها هو مَنْ يقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فهو رضي الله عنه يريد أن يستريح من عناء هؤلاء القوم الذين يجادلونه، ولا يطيعون له أمرًا، ويتمنّى الموت حتى يفارقهم، وقد ورد في هذا أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ فِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ بَعْجَةَ، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَلِيُّ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ.
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلْ مَقْتُولٌ ضَرْبَةٌ عَلَى هَذَا تَخْضِبُ هَذِهِ- يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ- عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ، وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى.
وعن عثمان بن صهيب، عن أبيه، قال علي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ؟
قلت: عاقر الناقة.
قال: صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ؟
قلت: لا علم لي.
قال: الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى يَافُوخِهِ.
وكان يقول: وددت لو أنه قد انبعث أشقاكم، فخضب هذه من هذه، يعني لحيته من دم رأسه.

المؤامرة الثلاثية ومقتل رابع الخلفاء الراشدين

كان الخوارج لا يبرحون، كل مدّة يخرجون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيقتل منهم الكثير، ثم يخرج عليه مرات ومرات، واستمرّت الأوضاع على هذا الاضطراب في العراق، بينما كانت الأوضاع هادئة في الشام، فقد كان أهلها يسمعون، ويطيعون لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وكان آخر ما فعله الخوارج في هذا التوقيت أن اجتمع ثلاثة منهم؛ عبد الرحمن بن ملجم الكندي، وكان في وجهه علامة السجود من كثرة العبادة، وكان معروفًا بها، وآخر اسمه البرك بن عبد الله التميمي، وآخر اسمه عمرو بن بكر التميمي، وتشاوروا فيما ينبغي أن يفعلوه، فهم غير راضين بأمر التحكيم، ويكفرون عليًا، ومعاوية ،وعمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعًا، ويكفرون كذلك كل من رضي بالتحكيم، وأخذوا يترحمون على إخوانهم الذين قتلوا في النهروان، وفي المعارك التي تلتها وقالوا:
ماذا نفعل بالبقاء بعدهم، إنهم والله كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
ثم قالوا: فلو شرينا أنفسنا من هذه الدنيا، فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم، فأرحنا منهم البلاد، وأخذنا منهم ثأر إخواننا.
فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم أمر علي بن أبي طالب.
وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية.
وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا على ذلك، واتفقوا على ألا ينقض أحد عهده، وأنهم سوف يذهبون لقتلهم، أو يموتون، وتواعدوا أن يقتلوهم في شهر رمضان، وكتموا الأمر عن الناس جميعًا إلا القليل، ومن هؤلاء القليل من تاب وحدّث بهذا الأمر.
ومما يُروى - ويصل إلى درجة الصحيح - أن امرأة تُسمّى قطام بنت الشجنة كانت فائقة الجمال، وقُتل أبوها وأخوها في يوم النهروان، جاءت إلى عبد الرحمن بن ملجم، وهو يتحدث مع بعض الناس في أمر قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما رآها أراد أن يخطبها، فشرطت عليه أن يدفع ثلاثة آلاف درهم، وخادمًا، وجارية، وأن يقتل علي بن أبي طالب فقال: والله ما أتيت هذه البلدة - الكوفة - إلا لهذا الأمر.
فشجعته على هذا الأمر وتزوجها، فتجمّعت عليه النيّات.
وذهب عبد الرحمن بن ملجم لرجل آخر يُسمّى شبيب بن نجدة الشجعي، وقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟
فقال شبيب: وما ذاك؟
قال: قتل علي.
فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئًا إدًّا، كيف تقدر عليه؟
فهو يستنكر عليه أن يفكر في قتل علي رضي الله عنه؛ لأنه كان قويًا شجاعًا يهابه الرجال، وله مواقف عظيمة في الحروب، وبطولات رائعة في القتال، ثم هو أمير المؤمنين.
فقال: أكمن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة- الفجر - شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قُتلنا فما عند الله خير.
فقال: ويحك، لو كان غير علي لكان أهون علي، قد عرفت سابقته في الإسلام، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أجدني أنشرح صدرًا لقتله.
فقال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان؟ نقتله بهم.
وأخذ يحفزه، فوافقه على أن يساعده في هذا الأمر.
وتواعد عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر على يوم واحد يقتلون فيه الثلاثة عليًا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ويخلّصون الأمة من أئمة الضلال في زعمهم.
فتواعدوا أن يقتلوا الثلاثة يوم السابع عشر من شهر رمضان، فتوجه البرك إلى دمشق حيث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وتوجه عمرو بن بكر إلى الفسطاط بمصر حيث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة حيث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
مقتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه
انتظر عبد الرحمن بن ملجم في فجر هذا اليوم حتى خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بيته لصلاة الفجر، وأخذ يمرّ على الناس يوقظهم للصلاة، وكان لا يصطحب معه حراسًا، حتى اقترب من المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض، لكنه لم يمت منها، فأمسك به ابن ملجم، وضربه بالسيف المسموم على رأسه، فسالت الدماء على لحيته، كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم مشهد قتله قبل ذلك.
ولما فعل ذلك عبد الرحمن بن ملجم قال: يا علي الحكم ليس لك ولا حكم إلا لله.
وأخذ يتلو قول الله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {البقرة:207} .
ونادي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عليكم به.
فأمسكوا بعبد الرحمن بن ملجم، وفر شبيب في البلاد.
وقدم علي رضي الله عنه جعدة بن هبيرة رضي الله عنه ليصلّى بالناس صلاة الفجر، وحمله الناس إلى بيته، وعلم رضي الله عنه أن هذا السيف مسموم، وأنه ميّت لا محالة، وخاصّة أن هذه الضرية وقعت كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى عبد الرحمن بن ملجم، وكان مكتوف الأيدي، فقال له علي رضي الله عنه: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟
قال: بلى.
قال: فما حملك على هذا؟
قال: شحذته - أي السيف - أربعين صباحًا، وسألت الله أن يُقتل به شر خلقه.
فقال له علي: والله ما أراك إلا مقتولًا، وقد استجاب الله لك.
ثم قال علي رضي الله عنه: إن مت فاقتلوه، وإن عشت فأنا أعلم ماذا أفعل به.
فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن متَّ نبايع الحسن؟
فقال رضي الله عنه: لا آمركم ولا أنهاكم.
ولما احتضر رضي الله عنه جعل يكثر من قول لا إله إلا الله حتى تكون آخر كلامه، ثم أوصى الحسن والحسين بوصيته وكتباها:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] {الأنعام:162،163} أوصيك يا حسن وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ صَلَاحَ ذَاتَ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
انظروا إلى ذوي أرحامكم، فصِلُوا؛ ليهون الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعفو أفواههم ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة، فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم لا تظلمن بين ظهرانيكم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: أُوصِيكُمْ بِالضَّعِيفَيْنِ نِسَائِكُمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
الصلاة الصلاة، لا تخافن في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فيولي الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر، والتقاطع، والتفرق، وتعاونوا على البر، والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ عليكم نبيكم، أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام، ورحمة الله.
ثم لم ينطق رضي الله عنه بعد ذلك إلا بلا إله إلا الله حتى كانت آخر لحظة في حياته رضي الله عنه وأرضاه قرأ: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7،8} .
ولقي ربه شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وزوج ابنة رسول الله صلى اله عليه وسلم، وابن عمه.
وغسّله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وصلّى عليه ابنه الحسن رضي الله عنه، ثم جاءوا بعبد الرحمن بن ملجم وأقاموا عليه الحدّ فقتلوه بسيفه.
محاولة قتل معاوية رضي الله عنه
أما معاوية رضي الله عنه، فقد انتظره البرك بن عبد الله الذي تعهد بقتله في نفس التوقيت، وضربه بالسيف المسموم فتجنّبه معاوية رضي الله عنه فأصاب فخذه، فحمله الناس إلى بيته، وقبضوا على البرك بن عبد الله، وداوى الناس معاوية رضي الله عنه فشفاه الله، ولم يمت من هذه الضربة.
أراد عمرًا وأراد الله خارجة
أما عمرو بن العاص، فذهب إليه عمرو بن بكر المتعهد بقتله، وانتظر خروجه لصلاة الصبح، ولكنه- سبحان الله - كان مريضًا في هذا اليوم، فعهد بالصلاة إلى نائبه خارجة، فما خرج إلى الصلاة ظنّه الرجل عمرو بن العاص، فذهب إليه وقتله، فأمسكوا به وقتلوه به، ونجّى الله عمرو بن العاص منه، وقال الناس: أراد عمرًا وأراد الله خارجة.
فصارت مثلًا لمن أراد شيئًا وأراد الله شيئًا آخر.
بعد مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصبح المسلمون بلا خليفة، وبدأ المسلمون يفكرون في اختيار خليفة لهم.

الحسن بن علي رضي الله عنهما وعام الجماعة

في هذا التوقيت كانت إمارة الشام على وفاق مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكانت إمارة كبيرة وضخمة وقوية وحصينة، فكانوا يشعرون بقوة بأسهم، ولما استشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه اجتمع أهل العراق، وبايعوا الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ليكون خليفةً للمسلمين، وهو اختيار موفَّق فالحسن رضي الله عنه كان ورعًا تقيًا عالمًا مجاهدًا، وهو ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه "سيّد" وكان يُلقّب بسيّد المسلمين، والأحاديث التي تدل على مكانة الحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه لهما كثيرة.
فاجتمع أهل العراق على مبايعته، وجاء قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه وكان تحت إمرته على أذربيجان أربعون ألف مقاتل كلهم قد بايع عليًا رضي الله عنه على الموت قبل استشهاده، فجاء رضي الله عنه، يقول للحسن رضي الله عنه: امدد يدك نبايعك.
فلم يردّ عليه الحسن، ولم يرض بهذا الأمر، ولم يكن يريده؛ لأنه يعلم أن وراءه الدماء الكثيرة، ولكن مع إصرار قيس بن سعد بن عبادة قَبِل رضي الله عنه البيعة، وكان هذا يوم 17 رمضان سنة 40 هـ، وهو يوم وفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
بويع الحسن رضي الله عنه في العراق، وكانت العراق تدير مساحة شاسعة من الدولة الإسلامية وبلاد فارس التي فُتحت.
أما أهل الشام فبعد استشهاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يجدوا بديلًا لخلافة المسلمين غير معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومما ينبغي أن نشير إليه في هذا المجال أنه طوال فترة خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع عدم مبايعتهم له، لم يطالبوا بالخلافة، ولم يطالب معاوية رضي الله عنه بالخلافة، بل إنهم قالوا:
إن أخذ علي بن أبي طالب الثأر من قتلة عثمان، فسوف نبايعه أميرًا على المسلمين، ولم يكن الأمر كما أُشيع في كتب الشيعة، والمستشرقين ومن تربى على أيديهم من المسلمين أن هذه المعارك الضخمة والحروب الكثيرة والدماء التي سفكت، إنما كانت لأجل الإمارة، والحكم، وهذا من الافتراء على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين ما قاتلوا إلا بعد اجتهادهم، ويقين كل من الفريقين أنه على الحق، وأنه بهذا القتال يرضي الله سبحانه وتعالى.
فبويع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالخلافة من قِبل أهل الشام، وأصبح للمسلمين، ولأول مرة خليفتان، أحدهما في الشام، والآخر في العراق، وهذا لا يستقيم شرعًا، ولا يصح في الإسلام، بل ينبغي أن يكون للمسلمين خليفة واحد يسمع له الجميع ويطيع.
وكان الحسن بن علي رضي الله عنه لا يحب القتال، وهو ممن حاول أن يمنع أباه عليًّا رضي الله عنه من الذهاب إلى صفين، لولا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقنعه بأنه إنما يقيم شرع الله بمقاتلة من خرج على بيعة الإمام، فلما تولّى الحسن رضي الله عنه الخلافة رغِب في الكفّ عن القتال، وحفْظ الدماء، وعدم الدخول في مشاحنات، أو معارك بين المسلمين، لكن أهل لعراق أصرّوا على قتال أهل الشام وعلى رَدّ الإمرة إلى العراق، وثاروا كعادتهم عليه رضي الله عنه، واجتمعت الألوف المؤلّفة على أمر قتال أهل الشام، والقتال وإن كان له تأويل شرعي، إلا أن فيه مخالفة للإمام ،وقد خشِي الحسن رضي الله عنه من فتنة مخالفة كل هذه الجموع، فخرج رضي الله عنه على رأس جيش لقتال أهل الشام وهو كارهٌ لهذا الأمر، وعلم معاوية رضي الله عنه بخروجه فخرج له بجيشه.
وعند اقتراب الجيشين كان الصراع شديدًا في داخل نفس الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو غير راغب في القتال، ويريد أن يحقن دماء المسلمين، فأرسل رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يطلب منه أن يرجع عن رأيه، ويدخل في جماعة المسلمين ويبايعه على الخلافة، لكن معاوية رضي الله عنه كان يرى أن تلك هي فرصته التي ربما لا تتكرر لأخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه بعد أن يكون أميرًا على جميع المسلمين، وكان جيش العراق القادم مع الحسن بن علي رضي الله عنه جيشًا ضخمًا كبيرًا، وخاصة بعد أن قُتل النصف من جيش معاوية رضي الله عنه في موقعة صفين، وكانوا راغبين في القتال، وقد بايعوا الحسن رضي الله عنه على الموت.
يقول الحسن البصري: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال.
ولما رآهم عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إني لأرى كتائب لا تولّى حتى تقتل أقرانها.
فقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: إن قُتل هؤلاء وهؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بضعفتهم، من لي بنسائهم، من لي بصبيانهم؟
وكان رضي الله عنه يكره القتال، وكان كما يقول الإمام ابن تيمية: أشد الناس بعدًا عن القتال.
فقرر رضي الله عنه أن يرسل رسولين إلى الحسن بن علي رضي الله عنه للمحاورة والمشاورة، فأرسل إليه عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر فذهبا إليه وجلسا معه.
فقال الحسن رضي الله عنه: إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها.
فقال له الرسولان: إنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسالمك.
فقال الحسن رضي الله عنه: فمن لي بهذا؟
فقالا له: نحن لك بهذا، فسُرّ بذلك الحسن وكان يرغب في هذا الأمر.
فقرر الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يقوم بخطوة من أخطر الخطوات في تاريخ الأمة الإسلامية، وهي خطوة جريئة لا يقدم عليها إلا رجل ذو نفس طاهرة طيبة كالحسن رضي الله عنه وأرضاه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرر رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهو راضٍ تمامًا، وهو في غاية القوة، فقد كان يفوق جيش الشام كثيرًا جدًا، وكان باستطاعته أن يبيد جيش الشام عن آخره ويبقى جيشه كبيرًا، ولكنه أراد أن يحقن الدماء بتنازله رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه.
وأرسل الحسن رضي الله عنه رسالة إلى معاوية رضي الله عنه بتنازله عن الخلافة على أن تُحقن دماء المسلمين، وعلى أن ترجع الجيوش دون قتال ودون حرب.
وبهذا أصبح معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه رضي الله عنه أمير المؤمنين الشرعي بعد الحسن بن علي رضي الله عنه الذي ظل أميرًا شرعيًا للمسلمين لمدة ستة أشهر.
وتنازل الحسن رضي الله عنه وإصلاحه بين المسلمين بتنازله هذا من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ففي البخاري أن أبا بكرة كان يقول: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وكان الحسن رضي الله عنه هو سبب الإصلاح بين فريقي العراق والشام، وسُمّي هذا العام (41 هـ) بعام الجماعة، وكان عامًا سعيدًا على المسلمين، لاجتماع الكلمة ووحدة الصف.
ولكن أهل العراق الذين تعودوا على الثورات على أمرائهم وعدم الطاعة لهم وعلى الخلاف والشقاق لم يرضوا بهذا الأمر، وغضبوا غضبًا شديدًا، وبعد عودة الحسن رضي الله عنه إلى الكوفة كانوا يقابلونه فيقولون له: السلام عليك يا مذل المؤمنين.
بعدما كانوا يقولون له: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
وكان رضي الله عنه يقول لهم: لا تقولوا هذا، لستُ بمذلّ المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك، وكان يقول: في يدي رقاب المسلمين.
وفي مسند الإمام أحمد عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ.
قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اثْنَيْ عَشْرَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فكانت الستة أشهر التي حكمها الحسن بن علي رضي الله عنه هي إكمال الخلافة الراشدة، وبداية إمارة معاوية رضي الله عنه هي بداية الملك الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلق الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية على هذا الأمر فيقول: وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم.
فقد كان رضي الله عنه كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمونه خال المؤمنين؛ لأنه أخو السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها وأخيها وصلى وسلم على زوجها صلى الله عليه وسلم.
وللمرة الأولى منذ ست سنوات يهدأ القتال، وتُجمع الأمة الإسلامية على خليفة واحد.